سلطة الغموض

سلطة الغموض | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

865 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كثير من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته, وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها.

 

سلطة الغموض

 

ولذلك تجد بعض الكتاب يميل إلى التحذلق والتقعر في الكتابة وعدم القصد إلى المعاني مباشرة, حيث يشعر أن طرح الفكرة في قالب مباشر يبدد وهجها, وأن وضع الفكرة في طرق ملتوية يبهر القارئ ويجعله يذعن للنتيجة.
وهذا الإذعان والخضوع للغموض ناشئٌ عن عدة أسباب.
منها أن بعض القراء يسلم لتلك النتائج لظنه أن عدم فهمه فرع عن عبقرية الخطاب وأنه فوق إمكانياته.
ومنها أن بعضهم يعجبه أن يتميز عن جمهور الناس بشئ ما, فلذلك تبتهج نفسه بالخطاب المعقد حيث يحقق له فرادة شخصية.

وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في درء التعارض فقال :

(وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء: قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة, ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور, ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة, فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات, قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين, وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج اليها, بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله, ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا)

فبعض القراء يكون قد اعتاد التعقيد فيصبح يتفاعل معه أكثر من الصياغة المباشرة, وبعض القراء يحب التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي

كما يقول الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين :

(وبعض الناس : يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

والحقيقة أنه لا يذعن أمام سلطة الغموض والتعقيد إلا القارئ ضعيف الشخصية, أما القارئ الواثق فإنه يعتبر التعقيد والغموض عياً في الكاتب لا ضعفاً في القارئ, ومن المؤسف أن سلطة الغموض من أشد الأمور تأثيراً على بعض القراء, خصوصاً من يتحاشى التهمة بعدم الفهم, فيظهر المشاكلة حذراً من الانتقاص, ويظهر ذلك خصوصاً في المصطلحات المعربة, أو الاصطلاحات المنقولة بتعابير وعرة غير موحية بدلالاتها, مع ما ينضاف إلى ذلك من تهويل المتحدثين بها, وفي حالة مشابهة

يقول الإمام ابن تيمية في درء التعارض :

(ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة, وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم, ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض, وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه, ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة, فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته, فأخذ يعترض عليهم, قالوا له: أنت لا تفهم هذا, وهذا لا يصلح لك, فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده, وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل)

ومما هو شديد الصلة بذلك أن كثيراً من غلاة المدنية إذا عبر لهم عن “المعنى المعين” باصطلاح شرعي أو تراثي استخفوا به واستعلوا عليه, وإذا عبر لهم عن ذات المعنى باصطلاح فكري حديث أو تعبير فرانكفوني معرب خضعوا للمعنى المتضمن به, لامتلاء قلوبهم بتعظيم المدنية الحديثة, وتبعية تفكيرهم لقوالب المعاني أكثر من المعاني ذاتها, وقد رصد الإمام ابن تيمية هذه الظاهرة وهي سلطة المصطلح ونفوذه الضخم على التفكير وكيف تسلبه القراءة الموضوعية الهادئة

كما يقول في منهاج السنة :

(وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده, وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول, وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب, ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك, فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك)

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

(فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن, ويدربه ويقويه على العلم, فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل, تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال, وهذا مقصد حسن, ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة: كالجبر, والمقابلة, وعويص الفرايض والوصايا والدور, لشحذ الذهن, فإنه علم صحيح في نفسه, ولهذا يسمى الرياضي, فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم, وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة, وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #سلطة-الغموض
اقرأ أيضا
التجديد في أصول الفقه؟ | مرابط
تفريغات

التجديد في أصول الفقه؟


بعض المدارس اليوم تقول: التجديد في أصول الفقه ويقولون ما شأننا بقواعد أصول الفقه التي سار عليها الإمام الشافعي فقد مر عليها أكثر من ألف سنة نحن نضع قواعد للفهم تتناسب مع العصر الحاضر أو بعبارة أخرى نحن نريد هدم القواعد التي سار عليها السلف ليست قضيتهم وضع قواعد بالعكس هم يريدون الأمر كما يقولون: قدسية النص وحرية القراءة.

بقلم: عامر بهجت
422
سلطة الغموض | مرابط
فكر مقالات

سلطة الغموض


هذا مقتطف من كتاب مآلات الخطاب المدني بعنوان: سلطة الغموض والكتاب من تأليف إبراهيم السكران ويتحدث عن أن كثيرا من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها

بقلم: إبراهيم السكران
867
خيركم لمن؟ | مرابط
مقالات

خيركم لمن؟


اقرأوا مشاكل الناس شكاوى الزوجات من الإهمال وشكاوى الأزواج أيضا من الإهمال وكيف يؤدي هذا إلى تحطم الأسر وأحيانا إلى الوقوع في الفواحش أو مقدماتها والعياذ بالله بجانب الوقوع في الحقد والحسد والانشغال بالآخرين وانظروا إلى آثار هذا الإهمال على الأولاد والنشء ثم على المجتمع بالتبعية لتستشعروا قدر الخيرية التي يحققها ذلك الحاضن لأسرته المشغول بهم المشغول بهم أي بكل شيء يخصهم وأهمه دينهم وخلقهم ونفسيتهم ونضجهم العقلي والعاطفي وليس فقط مشغولا بأكلهم ولبسهم ومدارسهم.

بقلم: معتز عبد الرحمن
261
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج2 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج2


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
657
صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة


سجل في الصندوق قبل أن يغلق الاكتتاب .. كانت أعمار بني آدم في الأزمنة السابقة طويلة وأما أعمار أمة خاتم الأنبياء غما بين الستين إلى السبعين إلا أن الله تعالى بفضله وبمنه وكرمه عوض نقص أعمار هذه الأمة بأن جعل لهم مواسم الخيرات محطات يتزودون بها ومن تلك المواسم عشر ذي الحجة حيث فضلت على سائر أيام

بقلم: د. يحيى بن إبراهيم اليحيى
377
مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

مقارنة الإسلام بالجاهلية


إن من أهم ما يبرز محاسن الإسلام ويرسخها في النفس: النظر إلى أحوال الجاهلية -سواء ما كان منها متقدما على الإسلام أو متأخرا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحي العظيم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرا ومتجذرا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد

بقلم: أحمد يوسف السيد
742