لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

361 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

استعباد البشر للبشر قديم جدًا، لا يعرف له التاريخ بداية؛ فقد رأيناه بجميع أنواعه في أقدم ما نعرفه عن الصين، وفي الهند كانوا يدينون بأن من لم يكن برهميًا، فهو مخلوق ليكون عبدًا للبرهمي، ويسمونه: (سودرار). وكان الرقيق في النظام الفرعوني هو أداة العمل، وعلى كتاف الرقيق بنيت الأهرام، وكان الرق عريقًا في تاريخ الآشوريين والفرس، أما في بني إسرائيل، فقد أباحت التوراة الاسترقاق بطريق الشراء، أو سبيًا في الحرب، بل أباحت التوراة للعبري أن يُستعبد إذا افتقر، فيبيع نفسه لغني، حتى يوفي له الثمن، أو يخدمه ست سنين، ثم يتحرر، وإذا سرق العبري ماشية وذبحها، أو أي شيء استهلكه، ولم يكن في يده ما يعوضه به عن سرقته، يباع السارق بسرقته، كما نصت على ذلك التوراة في: سفر الخروج، وأباحت التوراة للعبري أن يبيع بنته، فتكون أمةً للعبري الذي يشتريها.

الرق عند اليونان:

وكان استعباد البشر للبشر مطلقًا وبكثرة في حضارة اليونان، وكان قرصانهم يتخطفون أبناء الأمم الأخرى في مختلف السواحل، ويبيعونهم في أسواق "أثينا"، وغيرها، ولما صارت لليونان مستعمرات في آسيا الصغرى، صارت لهم فيها أسواق للاتجار بالرقيق، حتى امتلأت بيوت الإغريق بالإماء والعبيد، يستعبدهم اليونان جميعا، لا فرق بين غني وفقير، ولم تؤثر في تاريخهم كلمة واحدة عن أي حكيم من حكمائهم باستنكار استعباد الإنسان، لأخيه الإنسان أو الترغيب في تحريره.

الرق عند الرومان:

أما الرومانيون، فإن النخاسين كانوا يتخذون الحروب الكثيرة مواسم لتجارتهم، فيصحبون الجيوش إلى أوطان الشعوب الأخرى؛ ليشتروا الأسرى والمغلوبين من صبيان وينات، ورجال ونساء بأبخس الأثمان، حتى لقد كان النخاس إذا كان غنيًا يشتري ألف إنسان صفقة واحدة، عقب نصر كبير تعده الإنسانية خزيًا، ويعده تاريخ الاستعمار الروماني عظمة ومجدًا، وفي مدينة "رومية" العظمى كانت للرقيق سوق تعرض فيها هذه البضائع للمزاد العلني على رابية مرتفعة، فيكون الرقيق عريانًا من كل ما يستره، ذكرًا كان أو أنثى، كبيرًا أو حدثًا، ولمن شاء من الناس أن يدنو من هذا اللحم الحي المعروض للبيع، فيجسه بيده، ويقلبه كيف شاء، ولو لم يشتره في النهاية، والقانون الروماني لم يكن يعتبر الرقيق إنسانًا له شخصية ذات حقوق على الإنسانية، بل يعتبره شيئًا من الأشياء كسائر السلع التي يباح الاتجار بها.

نظام كان معترفًا به:

ولما جاءت المسيحية، كانت عبودية الإنسان شائعة في كل العالم. نقل الدكتور (جورج برست) أحد رجال الجامعة الأمريكية في بيروت، في المجلد الثاني من كتابه "قاموس الكتاب المقدس" (ص ٦٠ - ٦١) طبع المطبعة الأمريكية في بيروت سنّة ١٩٠١ م قول العالم (شاق): إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي، ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئًا ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها، ولم تأمر باطلاق العبيد حالًا. وبالإجمال: لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك، فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباتهما.

هكذا كانت عبودية الإنسان في أمم الأرض عندما ظهر الإسلام. فهو نظام كان معترفًا به من كل الأمم، وأسواقه قائمة في كل مكان، وآثاره موجودة في بيوت الناس ومجتمعاتهم، وفي أنظمة الدول ومرافقها.

مواقف الإسلام من الرق:

وأبرز مواقف الإسلام من الرق كان من ثلاث جهات:

أولًا: أمر المسلمين بحسن معاملة من تحت أيديهم من الرقيق إلى أقصى ما يمكن أن تسمو إليه الفضائل الإنسانية.
ثانيًا: الترغيب في تحرير الرقيق إلى أقصى ما ينتظر من دين عالمي جاء ليعالج عيوب المجتمع بحسن توجيهه نحو الفضائل.
ثالثاَّ: وضع قاعدة المعاملة بالمثل في الحروب الدولية فيما يتعلق بالأسرى ومبدأ الاسترقاق. وكلما وجد الإسلام دولة ترضى أن تتعامل معه بمبدأ ينطبق على أهدافه في تحرير الإنسانية من الرق، فإنه كان دائمًا على استعداد للاتفاق معها على تحقيق هذه الأمنية بالفعل.

إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن، وكتب السنّة النبوية المشهورة بصحة رواتها، إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق، فإنها وحدها تبلغ كتابًا، وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم، وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل، لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

ويمكننا أن نعلن ونحن مطمئنون بصحة ما نقول: أنه من أول ابتلاء الإنسانية بنظام الرق، واستعباد البشر للبشر، إلى طروء الضعف على دول الإسلام في العصرين الأخيرين، لا تعرف الإنسانية حضارة، ولا ديانة، ولا فلسفة قاومت الرق، وحاولت التخفيف من أضراره، وتهذيبه بما يلائم الإنسانية كما فعل الإسلام وحده، دون غيره من أنظمة البشر ومذاهبهم وطوائفهم.

تحرير الرقاب:

أما نص القرآن على ايجاب تحرير الرقيق، فنجده في سورة التوبة (الآية ٦٠) التي فرض فيها الإسلام ضريبة على المسلمين لهذا الغرض، وهي الزكاة، فجعل من مصارفها تحرير الرقاب؛ (أي: تحرير المملوكين): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٦٠]. والرقيق الذي يطلب من مالكه أن يتعاقد معه على مبلغ من المال يدفعه له بسعيه وعمله ليتحرر من الرق، قد وردت (الآية ٣٣) من سورة النور بأمر المسلم المالك للرقيق أن يجيب هذا الطلب، وذلك في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣].

وتحرير الرقيق قد جعله الإسلام فدية عن أمور كثيرة؛ كقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في (الآية الثالثة) من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ٣}.

وكقوله سبحانه في (الآية ٨٩) من سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: ٨٩].

ومما أوصى الله به المسلمين في (الآية ٣٦) من سورة النساء، قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣٦].

النبي يوصي بالرقيق:

أما الأحاديث النبوية في هذا الموضوع الإنساني، فكثيرة جدًا لا يكاد يأتي عليها الحصر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - ما برح يحدث أمم الأرض بها، ويحث القبائل والشعوب على العمل بها مدة ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله بالنبوة إلى أن اختاره للرفيق الأعلى.

ونحن نورد هنا نماذج قليلة منها؛ لندل على سائرها مما يتسع له المقام.

من ذلك: ما ورد في كتاب: الإيمان من "صحيح الإمام مسلم"، من حديث أبي ذر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال في الرقيق: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم، فأعينوهم".

وفي ذلك الكتاب من "صحيح مسلم" أيضًا، عن أبي هريرة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لاءمكم من خدمكم، فأطعموه مما تأكلون، وأكسوه مما تلبسون -أو قال: تكتسون-، ومن لا يلائمكم، فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

الاسترقاق الشرعي:

ثم إن الاسترقاق الشرعي هو الذي يقع في حرب يراد بها إعلاء كلمة الحق، وأن يأذن بها الحاكم العام، وأن يعامل المسترق بالرفق والإحسان كما يعامل الابن والأخ.

وقد أصدر أحمد باي تونس سنة ١٢٦٢ هـ أمرًا بتحرير المسترقين في المملكة التونسية، حيث إن غالب المالكين لا يعاملونهم بما أمر به الإسلام من الرفق وحسن المعاملة، ووافق الشيخ إبراهيم الرياحي رئيس الفتوى في تونس على ذلك.

ونص الفقهاء على أن من أضر برقيق ضررًا بينًا يعتقه القاضي عليه، وقد قدمنا أن الرق ليس بواجب من واجبات الحرب، إنما أباحه الإسلام للحاكم العام إذا اقتضته مصلحة الحرب، فلو اتفقت الدول على أن لا استرقاق، فرغبة شارع الإسلام في الحرية تجيز للحاكم العام أن يتفق مع المحاربين هذا الاتفاق، ويبطل الاسترقاق من أصله.


المصدر:
مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- غرة صفر ١٣٧٣ هـ -أكتوبر تشرين الأول- ١٩٥٣ م.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الرق
اقرأ أيضا
صفحات تاريخية مشرقة من سيرة القائد ألب أرسلان | مرابط
تاريخ

صفحات تاريخية مشرقة من سيرة القائد ألب أرسلان


وضع السلطان ألب أرسلان نصب عينيه تحقيق هدفي السلاجقة وهما: التوسع باتجاه الأراضي البيزنطية وطرد الفاطميين من بلاد الشام والحلول مكانهم ثم استخلاص مصر منهم وقد أثاره احتمال تقارب بين البيزنطيين والفاطميين فحرص على أن يحمي نفسه من بيزنطة بفتح أرمينية والاستقرار في ربوعها قبل أن يمضي في تحقيق الهدف الثاني وهو مهاجمة الفاطميين

بقلم: علي محمد الصلابي
348
الأغنياء | مرابط
فكر مقالات

الأغنياء


ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض وفي الحياة الدنيا ألا وإن المال عصام هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يقضى من أعاجيبها عجب ألا وإنه للنظام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة إذ يكون هو كل شيء ثم هو ليس بشيء على الحقيقة وإذ يكون في وهم الفقير القلق سر السعادة ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة

بقلم: محمود شاكر
1644
بما فضل الله | مرابط
مقالات المرأة

بما فضل الله


فمهما حاولت المرأة التخلص من العاطفة في حكمها على الأمور لن تستطيع لأنه مركوزة في فطرتها وتكوينها.. فنقص العاطفة عند الرجال كنقص العقل عند النساء تفضيل أودعه الله في الخلق لحكمة يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
261
من معاناة المرأة الغربية | مرابط
المرأة

من معاناة المرأة الغربية


أما حال النساء العاملات فأكثر ما يشتكين منه هو التحرش! وهذا أمر شائع ولا تكاد تجد امرأة لم تتعرض له والعكس صحيح أيضا فلديهم نساء يتحرشن بالرجال ويسترزقن من وراء ذلك بالتهديد برفع قضايا في المحاكم لابتزاز الرجل. تحرش يحصل في أرقى المؤسسات الحكومية والدولية وحتى في مراكز التعليم وكل مكان! واقع بائس تقضي المرأة حياتها تعمل ومرات حتى في العطل لأجل أن تعيش

بقلم: د. ليلى حمدان
392
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال | مرابط
مقالات النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال


أعلنت الأنثوية حربا شعواء ضد الرجل ورفعت شعارات من قبيل الرجال طبقة معادية والحرب بين الجنسين بل وصل حد المطالبة بالقتال من أجل عالم بلا رجال ووصل الحد بالمناداة باستعمال القسوة والعنف مع الرجال إلى حد أن هناك منظمة أنثوية أمريكية معرفة بحركة تقطيع أوصال الرجال تنادي باستئصال شأفة الرجال في المجتمع

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2328
الحجاب.. والفتاة المؤمنة | مرابط
المرأة

الحجاب.. والفتاة المؤمنة


وإن الفتاة المؤمنة هي التي لا تتحايل على ربها بلباسها فتظهر زينتها من حيث هي تزعم التدين والانتماء لأهل الصلاح بل الفتاة المؤمنة هي التي تلبس جلبابها الشرعي ثوبا هادئا ساكنا خاشعا على بدنها يسترها ولا يفضحها ويرفعها ولا يضعها ويكرمها ولا يمسخها ثم يقربها من ربها ولا يبعدها ويرفعها في الجنة إلى منازل الصالحين والصالحات والصديقين والصديقات.

بقلم: فريد الأنصاري
289