فاحكم بينهم أو أعرض عنهم

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2362 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أستاذٌ فاضلٌ كان كثيرًا ما يكرر على مسمعي هذه الكلمات:
( أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة أنها تعتمد على بعض النصوص وتترك بعض، فأخذها ببعض النصوص جعلها تظن أنها تعتمد على الشريعة، ولو نظرت في النصوص جميعًا لظهر لها الانحراف بشكل جلي).
 
وما أكثر الوقائع التي جعلتني أتذكر هذه الكلمات، وأكثر شيءٍ شدني فيها أنها تفسر حالة بعض الانحرافات التي تستدل – بصدق – بآيات من القرآن أو بأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُعلم قطعًا أنه مخالف لأحكام الشريعة وتأباه قواعدها وأصولها ولا يقول به فقيه، وهو أحد تطبيقات اتباع المتشابه الذي حذرنا الله تعالى منه في كتابه (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

تذكرت هذه الكلمات - مرة أخرى -  قبل أيام لما رأيت بعض الناس يستشهد بقول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)
يستدل بها على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها، فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنًا بها  لا يكون ملزمًا  كما خير الله في هذا الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم، ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار.

صدمت من هذا الاستدلال، لأن هذه النتيجة تضرب حكمًا قطعيًا من أحكام الإسلام، فكيف استهان أن يضرب هذا الأصل بمجرد فهم عارض طرأ عليه؟

وحتى لو جهل الباحث عن الحق معنى هذه الآية فمن العقل والحكمة أن ينظر في النتيجة التي يأخذها من الآية، فلا يمكن أن يأتي بها على حالة يراها ممزقة لأحكام وآيات كثيرة، فأين هو عن قول الله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ونحو هذه الدلائل القاطعة أن الإسلام حاكم على الجميع ولا يجوز تجاوزه أو التخيير في حكمه بمجرد أن أحدًا أو جماعة لا تريد ذلك.

 

تفسير الآية

إذن، ما تفسير قول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم)

لأهل التفسير اتجاهان في تفسير هذه الآية..

الاتجاه الأول: يرى أنها منسوخة بقول الله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله)
والاتجاه الآخر:  يرون أنها غير منسوخة وأنه لا تعارض بينها وبين قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) لأن المقصود أنه مخير، فإذا حكم وجب الحكم بما أنزل الله.[1]

وبناءً عليه، يرى بعض الفقهاء أنه يلزم القاضي أن يحكم بينهم إذا ترافعوا إليه[2]، ويرى آخرون أنه لا يلزم القاضي أن يحكم بين أهل الكتاب حين يأتوه.[3] وعلى كلا اتجاهي التفسير، وعلى كلتا الرؤيتين الفقهيتين فالحكم يتعلق بجزئية معينة، هي تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم فيما لا يلزمهم من أحكام الإسلام، فالآية لا تتحدث عن (أهل الإسلام) الذين يلزمهم أن يحكموا بالإسلام في كافة قضاياهم، ولا تتحدث عن (أهل الكتاب) فيما يلزمهم من أحكام الإسلام، إنما موضوع الآية في بعض الأحكام التي جعلت الشريعة لأهل الكتاب بأن لهم أن يتحاكموا فيها إلى دينهم، فإن اختاروا التحاكم إلى المسلمين فهل يلزم المسلمين الحكم بينهم؟

 

الخلل في تفسير الآية

هذا هو محل الآية، هو في الحكم بين أهل الكتاب فيما لا يلزمهم، فجاء هذا الاستدلال ليجعله حكمًا عامًا لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ويجعله حكمًا  عامًا لكافة القضايا ولو أدى لعدم الحكم بالإسلام، فضرب في أصول الإسلام يمنة ويسرة من حيث يظن أنه يستدل بآية قطعية الثبوت والدلالة! وهي مشكلة قد لا تظهر للقارئ إلا بعد أن ينظر في النصوص كلها فيتضح له عمق هذا الإشكال ومخالفته القطعية، لهذا كان العلماء يوصون بأهمية الرجوع لكلام أهل العلم بكتاب الله قبل الحكم لأنهم ينظرون في النصوص جميعًا فلا يقعون في مثل هذه الانحرافات والأخطاء الفادحة.

فهذا الخطأ صدم برأيه المتسرع هذا أمرين محكمين من محكمات الشريعة التي أجمع العلماء عليها:

المحكم الأول:  أن المسلم لا يُحكم في النظام الإسلامي بغير الإسلام أبدًا، وحتى لو اختلف مع كتابي فيجب الحكم بينهم بحكم الإسلام، وهو محل وفاق بين العلماء، وفيه ما لا يحصر من نقولات الاجماع:
فمنها مثلًا:

(فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولًا واحدًا سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا لأنهم يتجاذبان إلى الإسلام والكفر فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب).[4]

(واتفقوا فيما أعلم على أنه إذا ترافع مسلم وكافر أن على القاضي الحكم بينهم).[5]

(وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه)[6]

(فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة)[7]

وغيرهم ممن نقل هذا الإجماع المحكم.[8]

وإذا كان هذا في مسلم مع كتابي فكيف إذن إن كان بين مسلمين؟ فليس للمسلم خيار في قبول الشريعة أو رفضها (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا  أن يكون لهم الخيرة من أمره) بل إن رفضها يعتبر في النظام الإسلامي جناية تستحق العقوبة وليس المكافأة!
 
المحكم الثاني: أن هذا ليس في كل القضايا بل في بعض القضايا التي تركتها الشريعة لأهل الكتاب، وليس في كل الأحكام فإن ( الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم)

فحكم الإسلام شامل بعدله ورحمته وكماله لجميع المنضوين تحت سلطانه، غير أنه ترك لغير المسلمين بعض الأحكام فجعل لهم أن يتحاكموا فيها بينهم لان حكم الإسلام فيها أنهم غير ملزمين بأحكام المسلمين، وذلك مثل عباداتهم وأنكحتهم ومعاملاتهم وما يستحلونه كشرب الخمر، وأما ما تجاوز ذلك فهم ملزمون فيه بأحكام الإسلام.
وثم اختلاف في فروع المذاهب الفقهية في حدود ما يختص بغير المسلمين فعله مما لا يجوز للمسلمين فعله، سيصل قارئها لنتيجة قطعية ظاهرة هي أن ثم مساحة معينة – بشروطها – فقط هي التي لا يلزمهم فيها حكم الإسلام وهي التي جرى الخلاف فيها فيما لو جاءوا هل يلزم الحكم بينهم، لأنها مساحة تركتها الشريعة لهم، ولن يجد أحدًا يقول إنهم مخيرون في أحكام الإسلام كلها، بل هم متفقون على لزوم أحكام الإسلام عليهم في الجملة.[9]
 

خلاصة هذا الكلام كله:

أن حكم الآية خاص بأهل الذمة فقط، وخاص ببعض أقضيتهم، لكن هذا تحول بكل تهاون وعجلة إلى أن يكون شاملًا للمسلمين، وشاملًا لكل القضايا، من دون أن يتروى قائله قليلًا في هذه النتيجة التي تضرب في المحكمات من حيث لا يشعر!

فعجبًا كيف يستدل بآية قرآنية ليقع في هذا الخطأ الفادح!
 
 وفيه عبر:


1-ضرورة النظر في النصوص جميعًا، وأن الاستدلال بالنص الشرعي لا يكفي ما لم يضم لجميع النصوص في الباب حتى يتضح مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
2-ضرورة مراجعة كلام أهل العلم والنظر في أقوالهم وتفسيراتهم، فمن الكسل المعرفي والعجز العلمي أن يخوض المسلم في مثل هذه القضايا الكبيرة وهو خلو الذهن عن الاستفادة من تراث قرون تعاقبت فيها الأذهان والأقلام في التحرير والنظر والتدبر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
3-ضرورة صيانة أحكام الشريعة من  التفسيرات العاجلة التي يدفعها ضغط واقع معين أو حاجة ماسة ما، فيجد المسلم نفسه يتقبل كثيرًا من الأقوال والتفسيرات متخففًا من الأصول المنهجية والقواعد العلمية في النظر والاستدلال لأن ثم قوة دافعة تجعله لا يقف عندها كثيرًا.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: تفسير الطبري10/ 325-330
  2. هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية ورواية عند الحنابلة،  انظر: بدائع الصنائع2/312، الحاوي 9/307،  المغني 10/190.
  3. هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية،  انظر: الذخيرة 3/458، المغني 10/190، الحاوي 9/307
  4. الحاوي في فقه الشافعي 9/308
  5. الذخيرة 10/112
  6. المغني 10/191
  7. تفسير البغوي 3/59، وانظر: شرح السنة للبغوي 10/287
  8. انظر: تفسير الخازن 2/55، اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي 7/343، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/148، تفسير الجلالين 144، فتح القدير 2/61
  9. انظر في المذاهب الأربعة:  بدائع الصنائع 7/113، الذخيرة للقرافي 457-458 و 326، الحاوي للماوردي 14/386-387،  المغني 10/190 وعند  المفسرين انظر:  المحرر الوجيز 2/226، الجامع لأحكام القرآن 6/185،  التحرير والتنوير 6/205-206

 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الثانية، ص133
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص
اقرأ أيضا
من أبواب العقل والراحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أبواب العقل والراحة


باب عظيم من أبواب العقل والراحة: وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو باب العقل كله والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن ألمتها في أول صدمة

بقلم: ابن حزم
206
تراجع الخيرية | مرابط
مقالات

تراجع الخيرية


من تأمل في تراجع الخيرية في قرون الإسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بقلم: إبراهيم السكران
249
الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة | مرابط
فكر مقالات النسوية

الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة


في هذا المقال استعراض واف لأحد أهم الأصول التي تستند عليها الحركة النسوية بشكل عام وهو الجندر والذي يعبر عن الهوية الجديدة للرجل والمرأة فالتصنيف البيولوجي للذكر والأنثى وطبيعة الخلقة الجنسية لكل واحد منهما لم تعد تعني شيئا بالنسبة للحركة النسوية وإنما هي صناعة مجتمعية مفروض فالمجتمع هو الذي فرض على الذكر أن يكون ذكرا والعكس وأما الجندرية فهي مرتبطة بميول الشخص وأدواره الاجتماعية التي يريدها وفي المقال تفصل لنا الدكتورة وضحى هذا الأساس الأول

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2476
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
349
دير ياسين والتطهير العرقي | مرابط
توثيقات

دير ياسين والتطهير العرقي


إن مذبحة دير ياسين والمذابح الأخرى المماثلة لم تكن مجرد حوادث فردية أو استثنائية طائشة بل كانت جزءا أصيلا من نمط ثابت ومتواتر ومتصل يعكس الرؤية الصهيونية للواقع والتاريخ والآخر حيث يصبح العنف بأشكاله المختلفة وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية وتنقيتها من السمات الطفيلية والهامشية التي ترسخت لديها نتيجة القيام بدور الجماعة الوظيفية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
487
التقعر في الكتابة | مرابط
فكر

التقعر في الكتابة


الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار وهي كالكلام من هذه الناحية وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي

بقلم: د جمال الباشا
426