تراجع الخيرية

تراجع الخيرية | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

258 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

مَن تأمّل في "تراجع الخيرية" في قرون الإسلام الأولى= علِم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم، وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمّن سبقهم، وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بل إن مَن تأمّل لحظة ارتطام الفكر الاسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الاسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء= علم أن أئمة الاسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم الرسل أعظم في نفوسهم من كل ما سواها، فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين كل خير.

وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المُفضّلة، أما لو شئنا الانتقال إلى "النتائج الواقعية" وعقَدنا مقارنة بين "مخرجات المدرسة التربوية الاسلامية" وبين مخرجات الخطاب الديني المتبنّي لـ"تعظيم الدنيا"= فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.

فمخرجات المدرسة التربوية الاسلامية عميقة الإيمان بمرجعية الوحي، وشديدة الاعتزاز بسلفها، متشبعة بقيم العمل للإسلام والغيرة على الدين، وراسخة الإيمان بظلامية الثقافة الغربية، وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الإعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والإتصالية، وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد .. فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقُدها الى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية، بل قادها الى النجاح في تنظيم هرميّة اهتماماتها بشكل صحيح، فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد.  

وبالمقابل، قارن ذلك بمخرجات الخطاب الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا"، ستجد مَن يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزح عن علمانيته قيد أنملة، ومَن استمع له من الشباب وتشبّع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره؛ فنقصت هيبة السلف في نظره، وارتفعت قيمة الكفار، وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الإيمانية، ثم خسارة "المكتسبات السلوكية" الراقية التي تربى عليها، وغير ذلك من المظاهر المعروفة.

وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب "تعظيم المدنية الدنيوية" هو أنه يمارس دون وعي "إعادة تشكيل داخلي للمعايير" بما يتناقض مع المعايير الإلهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم.  

وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الإنحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا -وخصوصاً في مستوياته الشبابية-، فرأيت أنه إذا تشرّب قلب الشاب "تعظيم المدنية الدنيوية" و"الغلو في الحضارة المادية" بحيث أصبحت "معياره" في تقييم المجتمعات والشخصيات= قاده ذلك "تدريجياً" الى زهاء خمسة عشر كارثة:

التحييد العملي للنص، والإزراء بالقرون المفضلة، والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة، واللهج بتعظيم الكفار، والسرور بالحديث الفكري المجرد، والتدهور السلوكي، والعزوف الدعوي، والتحول للمشروعات الفكرية "الشخصية"، واستسذاج الموعظة والخطاب الايماني، والحدة في محاسبة الإسلاميين، والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة، وذبول الحمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمُحكمات، والتركيز على زلات المحتسبين بما يفوق عدوان المجاهرين، والتلذذ بمناهضة الفتاوى، والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء.

وباختصار شديد: إن خطاب الغلو المدني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف!!


المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص308

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مآلات-الخطاب-المدني
اقرأ أيضا
الفرق بين النسخ والتخصيص | مرابط
تعزيز اليقين فكر

الفرق بين النسخ والتخصيص


لقد أدى التشابه بين النسخ والتخصيص ببعض العلماء إلى إنكار وجود النسخ في الشريعة الإسلامية واعتبروا كل ما قيل بنسخه أنه من باب التخصيص وعلى عكس هؤلاء اعتبر آخرون التخصيص نسخا فأدخلوا في باب النسخ صورا كثيرة من صور التخصيص لذا وجب بيان الفروق بين النسخ والتخصيص

بقلم: ناصر عبد الغفور
2442
الاستبدادان | مرابط
فكر مقالات

الاستبدادان


تجري كلمة الاستبداد على ألسنة كثير من الناس دون دراية بمضمونها أو مفهومها على وجهه الحقيقي حتى أن أحد هؤلاء قد يكون واقعا في معنى من معاني الاستبداد ولكنه لا يدري أو ربما يراه من أسمى معاني الحرية وفي هذا المقال يوضح لنا الكاتب معنى الاستبداد ومفهومه ويفرق لنا بين نوعين من أنواع الاستبداد

بقلم: إبراهيم السكران
2276
كيف كان الرسول يبث الأمل في أصحابه وقت الأزمات | مرابط
تفريغات

كيف كان الرسول يبث الأمل في أصحابه وقت الأزمات


كان صلى الله عليه وسلم يمر على مجالس قريش ويقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فكان يخاطبهم بذلك في الفترة المكة ويبشر المسلمين المحصورين في الفترة المكية بسيادة الأرض وملك العرب والعجم أي: فارس والروم أكبر دولتين في الأرض في ذلك الزمن وكانتا تقتسمان العالم في ذلك الزمن النصف الشرقي فارس والنصف الغربي الروم ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في زمان الاستضعاف والقهر والتعذيب والبطش والإحاطة من الكفار للمسلمين كالسوار حول المعصم الفترة

بقلم: د راغب السرجاني
816
نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات

نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1421
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج4 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج4


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
957
روح العصبية الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

روح العصبية الغربية


لم أستطع أن أكتشف فترة في التاريخ الأوروبي أو التاريخ الأمريكي منذ العصور الوسطى ناقش أحد فيها الإسلام أو أي فكر فيه خارج إطار صاغته العاطفة المشبوبة والتعصب والمصالح السياسية وقد لا يبدو ذلك اكتشافا يدعو إلى الدهشة ولكنه يضم في ثناياه جميع ألوان المباحث العلمية والأكاديمية التي كانت منذ مطلع القرن الثامن عشر تطلق على نفسها اسما كليا هو مبحث الاستشراق أو كانت تحاول بانتظام دراسة الشرق

بقلم: إدوارد سعيد
1930