التقعر في الكتابة

التقعر في الكتابة | مرابط

الكاتب: د جمال الباشا

439 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار، وهي كالكلام من هذه الناحية، وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر.

وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق، وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي الذي يتحدث به الناس عادة، واختيار المفردات الغريبة والتراكيب العويصة في طرح أي موضوع يتناوله سواء أكان لفظيا أم كتابيا.

والذي حملني على التعرض لهذا الموضوع رصدي لبعض المبرَّزين من الخطباء أو الكتاب الذين أغرقوا في الأسلوب الأدبي إلى حدِّ الغلو فلم يعودوا قادرين على تناول أي موضوع بشكل عفوي وبلغة بسيطة يفهمها عامة الناس، حتى لو كانت الفئة المستفيدة من عموم الناس وليسوا من طلبة العلم ولا الأدباء، ولا يخفى كم في هذا المنحى من حظوظ النفس والتفات القلب إلى مدح الناس وإطرائهم أكثر من التفاته إلى نفعهم والنصح لهم.

تجد بعض الكُتاب يذهب بك بعيدًا فيُشرِّقُ ويُغرِّب وربما سحرك بجمال صياغاته وتراكيبه ثم إذا أنهيت المقال لا تكاد تُمسك بأصل الموضوع ولا تستطيع حصرَ الفكرة التي تناولها ولا مراده منها، ولو سألت المعجبين الذين ينهالون عليه بعبارات الثناء والتبجيل ما هي خلاصة المقال؟ هل لكم أن توجزوا الفكرة ببساطة ووضوح؟!
سوف يجيبونك بالعجز عن ذلك!!

ومعلوم أنَّ الكتابة الأدبية كتابة خاصة تتضمن صورًا من التشبيه كالمجاز والكنايات، ويراعى فيها البديع كالسجع والطباق والجناس، مما يجعله مناسبا في مقامه الخاص كالمنتديات الشعرية والصالونات الأدبية التي يرتادها المثقفون ذوو الذائقة الخاصة فيستمتعون بها ويحلقون معها، وهذا ما درج عليه بعض من كتب قديما كالحريري في مقاماته، وابن الجوزي في مدهشه، وحديثا كالرافعي ومحمود شاكر والمنفلوطي وغيرهم، وهذا الأسلوب لن يكون محبذا في كل مقام ولا مع كل أحد، فخطبة الجمعة أو المقالة العلمية أو الفقهية أو الموعظة المركزة كل هذا يجب أن يكون الهدف الأساس منه إيصال المعاني والمضامين إلى السامعين وليس إمتاعهم وإبهارهم بقوة البلاغة وبراعة العرض وسعة الإحاطة بالغريب.

وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ البلاغة والفصاحة هي تلك اللغة المعقدة المُلغِزة التي لا يفهمها أكثر الناس، ولم يعلموا أنَّ البلاغة تفيد معنى بلوغ مراد المتكلم إلى السامع، والفصاحة تفيد كذلك معنى الإفصاح والبيان الجلي، وقدرة المتكلم عن التعبير بسلاسة عما في نفسه، فيتطابق اللفظ مع المعنى من غير حشو ولا إطناب.

لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتنطعين بالهلاك فقال: (هلك المتنطعون. قالها ثلاثا).
وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي وأكمله في الكلام دعوةً وتعليمًا وخطابةً وتحاورًا، وفي الأمور كلها.
وكان من هديه في الكلام ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه".

يعجبني في هذا المقام ما قاله الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحَم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا".

وأخيرًا أقول:

إنَّ المحسنات البديعية والصور المجازية في اللغة هي بمثابة الملح والتوابل التي تضفي نكهة طيبة على الطعام، فإذا كانت هي البديل عن الطعام ذاته أو زادت عن حد الاعتدال فقدت قيمتها وكرهها الطبع السليم والمزاج المعتدل

 


 

المصدر:

قناة تيليجرام الخاصة بالدكتور جمال الباشا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الكتابة
اقرأ أيضا
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول


القدر مما تعبدنا الله به استسلاما له فلابد أن نعرف حكم القضاء والقدر وأن الإيمان بالقضاء والقدر واجب لنتعبد الله بالاستسلام لهذا القضاء والقدر وفي هذا المقال بجزئيه استعراض ماتع من الشيخ محمد صالح المنجد لفوائد وثمرات الإيمان بالقدر مثل حسن الظن بالله والتسليم لحكمه سبحانه

بقلم: محمد صالح المنجد
1361
من أشراط الساعة: تمني الموت | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: تمني الموت


ومن أشراط الساعة: تمني الرجل الموت وجواز ذلك لشدة ما ينزل في الأفراد من فتنة أو ضراء وقد جاء في الصحيح من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيتمنى أن يكون مكانه وفي هذا إشارة إلى أن تمني الموت في بعض الأحيان جائز عند استحكام الشر واستغلاقه وعند شدة الفتن والتباس الأمر يعني: أن يدعو الإنسان أن يقبضه الله غير مفتون وأن يكون مكان صاحب القبر

بقلم: عبد العزيز الطريفي
646
الدليل العقلي عند السلف ج2 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج2


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
322
براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث


شكل المذهب الأشعري منهجا جديدا مختلفا عما كان عليه السلف المتقدمون منذ أول لحظة من ظهوره حيث إن الأشعري اعتمد طريقة ابن كلاب ومنهجه في تأسيس العقائد ومن حين أن ظهر المذهب الأشعري باعتباره مذهبا عقديا له أصول وعقائد خاصة اتخذ منه أئمة أهل السنة والجماعة الذين هم أخبر بمذهب الأئمة المتقدمين وأعلم بمدلولاتها موقفا واضحا وعدوه من الفرق الخارجة عن السنة التي كان عليها الصحابة وتلاميذهم ومن جاء بعدهم من الأئمة المتبوعين نتيجة لما تلبس به من أخطاء منهجية وعقدية وفي هذا المقال يضع الكاتب أمامنا أهم...

بقلم: سلطان العميري
1547
فن أصول التفسير ج4 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج4


في قضية مصادر التفسير ممكن نقسمها إلى: المصادر النقلية البحتة والمصادر النقلية النسبية ومصادر الاجتهاد الآن من هو المفسر الأول للقرآن أو قل: ما هو المصدر الأول لتفسير القرآن القرآن نفسه ثم المصدر الثاني السنة ثم المصدر الثالث: الصحابة

بقلم: مساعد الطيار
643
لغة أضاعها أهلوها | مرابط
لسانيات

لغة أضاعها أهلوها


صرت تقرأ كتبا ومقالات لقوم من أشباه العوام وهم عند الناس كتاب ومؤلفون يلحنون في الفاعل والمفعول وهم من أئمة الأدب وأعيان الأدباء ما قرؤوا يوما كتابا في نحو ولا صرف ولا تمرسوا بأساليب العرب ولا عرفوا مذاهبها في كلامها وهم أساتذة الأدب الرسميون في الثانويات والجامعات

بقلم: علي الطنطاوي
692