وبدأ الانحراف يسبل إزاره

وبدأ الانحراف يسبل إزاره | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

549 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

أولًا وقبل كل شيء... أسأل الله أن يثبتنا وإياك على دينه.

حالات الانحراف عن التدين كثرت هذه الأيام... وبينها تفاوت كبير... فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم أمامها... وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو والترفيه... وإن كان الأمر دومًا يكون مركبًا من هوى وشبهة لكنه يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال.

تدبر القرآن

وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا أعرف علاجًا أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لا يكاد يوجد في غير القرآن، فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج من الآية:54]... وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق والإذعان له كما قال تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر من الآية:23].

وفي القرآن من بيان العلم والحق في مثل هذه القضايا المنهجية ما لا يوجد في غيره، ومفتاح الهداية مقارنة هدي القرآن بسلوكيات التيارات الفكرية.

أعني أنه إذا رأى متدبر القرآن تفريق القرآن بين المعترف بتقصيره حيث جعله قريبًا من العفو {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة من الآية:102]، وبين تغطية وتبرير التقصير بحيل التأويل الذي جعله الله سببا للمسخ {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، ومجرد المعصية بالصيد في اليوم المحرم لا تستحق المسخ فقد جرى من بني اسرائيل ما هو أكثر من ذلك ولم يمسخهم الله، ولكن الاحتيال على النص بالتأويل ضاعف شناعتها عند الله جل وعلا.

تعظيم مرجعية الصحابة

وإذا رأى متدبر القرآن -أيضًا- تعظيم القرآن لمرجعية الصحابة في فهم الاسلام، وربطه فهم الإسلام بتجربة بشرية، كقوله تعالى {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} [البقرة من الآية:137]، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [التوبة من الآية:100]، وقوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة من الآيتين: 6-7]وقوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبإ من الآية:24]، وقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة من الآية:75].

وقوله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]، ففي مثل هذه الآيات البينات يكشف تعالى أن الوحي ليس نصًا مفتوحًا، بل هو مرتبط بالاهتداء بتجربة بشرية سابقة، فيأمرنا صريحا أن نؤمن كما آمن الصحابة، وأن نتبع الصحابة بإحسان، ويأمرنا بكل وضوح أن نرد الأمر إلى أولي العلم الذين يستنبطونه، وهذا كله يبين أن الإسلام ليس فكرة مجردة يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب... ويتاح الفهم لكل شخص كما يميل... بل هناك تجربة بشرية حاكمة للتفسيرات.

تفاهة الدنيا

وإذا رأى متدبر القرآن -أيضًا- بيان القرآن لتفاهة الدنيا، وكثرة ما ضرب الله لذلك من الأمثال كنهيه نبيه عن الالتفات إلى الدنيا {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه من الآية:131]،  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب من الآية:28].

وإذا رأى متدبر القرآن -أيضًا- ما في القرآن من بيان الله لحقارة الكافر وانحطاطه حيث جعله القرآن في مرتبة الأنعام والدواب والحمير والكلاب والنجاسة والرجس والجهل واللاعقل والعمى والصمم والبَكم والضلال والحيرة الخ من الأوصاف القرآنية المذهلة التي تملأ قلب قارئ القرآن بأقصى ما يمكن من معاني ومرادفات المهانة والحقارة، كقوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد من الآية:12]، وقوله {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال من الآية:55] وقوله {كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام من الآية:125] وأمثالها كثير.

التحفظ في العلاقة بين الجنسين

وإذا رأى متدبر القرآن -أيضًا- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين، كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب من الآية:53]، وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت  {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب من الآية:33]، ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب من الآية:32]، ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشيء من زينة المرأة {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور من الآية:31] ونحو ذلك.

تصوير العبودية

وإذا رأى متدبر القرآن -أيضًا- عظمة تصوير القرآن للعبودية كتصويره المؤمنين في ذكرهم لله على كل الأحوال{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ} [آل عمران من الآية:191]، وحينما أراد أن يصف الصحابة بأخص صفاتهم قال {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح من الآية:29]، وكيف وصف الله ليلهم الذي يذهب أغلبه في الصلاة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل من الآية:20].

والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء باتباع السلف في فهم الإسلام، وملأ القلوب بحب الدنيا، ولهج بتعظيم الكفار، وتكسير للحواجز بين الجنسين، وتهتك عبادي ظاهر، الخ. إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب معرفة الحق.


المصدر:
الطريق إلى القرآن، إبراهيم السكران

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران
اقرأ أيضا
إضاءة في سبيل العلم وطلبه | مرابط
مقالات

إضاءة في سبيل العلم وطلبه


هل جربت يا طالب العلم قبل كل كتاب تقرؤه أو درس تحضره أو مادة تسمعها أن تتضرع إلى الله وتسأله أن يبارك لك في هذه القراءة وهذا الدرس وأن يفتح على قلبك وأن ييسر لك سبيل العلم النافع وأن لا يكلك إلى نفسك وأن يجعل ذلك كله سبيلا إلى رضوانه.

بقلم: د. طلال الحسان
1236
غربة الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

غربة الدين


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها ويستنكر تعاليمها ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية

بقلم: د راغب السرجاني
677
البيئة الحاضنة للانحراف | مرابط
فكر

البيئة الحاضنة للانحراف


هل يظن أحد أنه في مأمن عن الانحراف بعد أن يقرأ هذا الخبر؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء ب يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ولما سئل عن سبب ذلك قال: إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ

بقلم: فهد بن صالح العجلان
307
ماذا نريد من المرأة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

ماذا نريد من المرأة ج1


سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم وقالت له توصيه: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك

بقلم: محمد الدويش
486
ليلة في بيت النبي الجزء الأول | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الأول


نتعلم في هذه المحاضرة معنى الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة ومعرفة حدود طاعة الرجل إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: رفقا بالقوارير وحديث...

بقلم: أبو إسحق الحويني
660
أثر الخلوات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الخلوات


إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

بقلم: ابن الجوزي
463