رواية الأحاديث بالمعنى لم تدخل ضررا على الدين ج1

رواية الأحاديث بالمعنى لم تدخل ضررا على الدين ج1 | مرابط

الكاتب: محمد أبو شهبة

2282 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ملخص: مقال مختصر يرد فيه الكاتب محمد أبو شهبة على بعض الشبهات والأباطيل التي أثارها محمود أبو رية حول السنة النبوية، ومن ذلك زعمه أن الأحاديث رويت بالمعنى وأن هذا ربما أدخل ضررًا على الدين، بل وقال أن الرواية بالمعنى هو الأصل والقاعدة والرواية باللفظ هو العارض أو النادر، وبالطبع يؤسس بهذا لفكرة أخرى وهي أن الأحاديث لم تسلم من التغيير والتبديل والتحريف وأنها لم تصلنا بلفظها كما نطقها النبي، ويرمي في النهاية إلى توهين الانقياد والاستسلام للسنة النبوية بشكل عام.

 

الرواية بالمعنى وشبهات أبي رية

1- من دَأْبِ هذا المؤلف -يقصد أبا رية- في كتابه أنه إذا استولت عليه فكرة أو غلب عليه هوى، جعل البحث تابعًا لما يرى أو يَهْوَى، وفي سبيل هذا يركب الصعب والذلول، ولا عليه في هذا السبيل أنْ يُحَرِّفَ الكَلِمَ عن مواضعه، وَيُحَمِّلَ الألفاظ ما لم تتحمل، وأنْ ينقل نقولًا بتراء، وأنْ يقع في أعراض بعض العلماء والأئمة المُتَثَبِّتِينَ. ومن دأبه اَيْضًا التهويل والمبالغة عند عرض فكرة أو رأي له، وأنه يجعل الفرع أصلًا والأصل فرعًا، وهذا هو ما صنعه عندما عرض لبحث «رواية الحديث» في [ص 54] وما بعدها فقد جعل رواية الأحاديث بالمعنى هو الأصل والقاعدة ومجيئها على اللفظ أمرًا شاذًا نادرًا.

بل وأنحى باللائمة والتجهيل للذين يحسبون: «أنَّ أحاديث الرسول التي يقرأونها في الكتب أو يسمعونها مِمَّنْ يتحدَّثون بها جاءت صحيحة المبنى مُحْكَمَةَ التأليف، وأنَّ ألفاظها قد وصلت إلى الرُواة مصونة كما نطق بها النَّبِي بلا تحريف ولا تبديل، وأنَّ الصحابة ومن جاء بعدهم مِمَّنْ حملوا عنهم إلى زمن التدوين قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدُّوها على وجهها كما لَقَّنُوهَا، فلم ينلها تَغَيُّرٌ ولا اعتراها تبديل، وأنَّ الرُواة للأحاديث كانوا صنفًا خاصًا في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة»، إلى أنْ قال: «ولقد كان -ولا جرم- لهذا الفهم أثر بالغ في أفكار شيوخ الدين -إِلاَّ من عصم ربك- فاعتقدوا أنَّ هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز من وجوب التسليم بها، وفرض الإذعان لأحكامها، بحيث يأثم أو يَرْتَدُّ أو يفسق من خالفها، ويستتاب من أنكرها أو شك فيها».

والقارئ لهذا الكلام - إذا لم يكن من أهل العلم والمعرفة بالحديث النبوي - يُخَيَّلُ إليه أنَّ السُنَّة لم يأت فيها حديث على مُحْكَمِ لفظه، وأنها قد دخلها الكثير من التغيير والتحريف، مع أنَّ الأصل في الرواية أنْ تكون باللفظ المسموع من الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -، وأما الرواية بالمعنى فهي رُخْْصَةٌ يَتَرَخَّصُ فيها بقدر الحاجة إليها إذا غاب اللفظ عن الذهن أو لم يتأكد منه.

ومِمَّا لا ينبغي أنْ يخفى على باحث في الحديث النبوي أنْ يعلم أنَّ بعض العلماء والرُواة قد منعوا الرواية بالمعنى مطلقًا، وألزموا أنفسهم وغيرهم بأداء اللفظ كما سمع، وأنَّ من أجاز من العلماء والرُواة الرواية بالمعنى إنما أجازها بشروط فيها غاية التحوط والأمن من التزيد والتغيير والتبديل، فقالوا: لا تجوز الرواية بالمعنى إِلاَّ لعالم عارف بالألفاظ ومقاصدها، خبير بما يحيل معانيها، بصير بمقدار التفاوت بينها، كما قالوا: إنَّ هذا فيما يروى قبل أنْ يُدَوَّنَ، أما ما دُوِّنَ في الكتب فلا يجوز تغييره بمرادفه ولا التصرف في لفظه بحال من الأحوال (1).

والعجيب أنَّ المؤلف نقل نحوًا من هذا عن كتاب " توجيه النظر " للعلامة الشيخ طاهر الجزائري، ولا أدري كيف ينقل شيئًا ولا يقتنع به؟! وكيف غاب عن ذهن المؤلف أنَّ التدوين بدأ بصفة عامة ورسمية في نهاية القرن الأول، ولم يكد ينتهي القرن الثالث حتى كانت السُنَّة كلها مُدَوَّنَةً في الكتب من صحاح وسُنن ومسانيد؟ وأنَّ بعض الصحابة والتابعين كانوا يُدَوِّنُونَ الأحاديث في القرن الأول ولا سيما بعد وفاة النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) فكيف تتفق هذه الحقائق وما رمى به من أحكام جائرة ظالمة؟ وهل على أحد من حرج بعد هذا لو وصم هذا المؤلف بِخُبْثِ الطَوِيَّةِ وَسُوءِ القصد ومحاولة هدم الأصل الثاني من أصول التشريع؟؟.

وماذا يبتغي أعداء الإسلام أكثر مِمَّا يقوم به «أَبُو رَيَّةَ» وأمثاله من تقويض إحدى دعامتي الدين بهذه المحاولات الفاشلة الهازلة؟ وليعلم أَبُو رَيَّةَ أنَّ شيوخ الدين - أَعَزَّهُمْ اللهُ - حينما يعرفون للسُنَّةِ مكانتها من الدين، ويحلونها من أنفسهم المحل اللاَّئق بها، ويرون التزامها علمًا وعملًا وسلوكًا، وَيَذُبُّونَ عن ساحتها كل دَعِيٍّ زنيم، ويفسقون أو يؤثمون من يرد ما ثبت من السُنَّة ويحاول جاهدًا إبطالها والكيد لها أو الاستهزاء والاستخفاف بها، لا يستحقون منه كل هذا الغمز واللمز، لأنهم يصدرون في هذا عن دين قويم ورأي مستنير وعلم أصيل.

 

أهل القرون المفضلة

2- إنَّ هذه الأحكام الجائرة إنما تصدر عَمَّنْ غفل عن العوامل الدينية والنفسية والخلقية التي اتَّصَفَ بها الرُواة من الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل القرون الفاضلة بشهادة المعصوم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهادة الواقع التاريخي، فهم ذَوُو الدين الكامل والخُلُقِ العالي والتقوى والمروءة، وهم يعلمون حَقَّ العلم [أنهم] يَرْوُونَ نَصًا يعتبر مرجعًا في الدين وأصلًا من أصوله وأنَّ أَيَّ تزيد فيه أو تحريف وتبديل يُؤَدِّي بهم إلى أنْ يَتَبَوَّأُوا مقاعدهم في النار، وهم إلى ذلك ذَوُو حوافظ قوية، وأذهان سَيَّالَةٍ، ووِجْدَانٍ حَيٍّ، وقلوب عاقلة واعية، وإنكار هذه الخصائص أو بعضها إنكار للحق الثابت والواقع الملموس.

 

من أدلة المجوّزين للرواية بالمعنى

3- حينما نقل من أدلة المُجَوِّزِينَ للرواية بالمعنى حديث عبد الله بن سليمان اللَّيْثِيِّ قال:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُؤَدِّيَهُ كَمَا أَسْمَعُ مِنْكَ يَزِيدُ حَرْفًا أَوْ يَنْقُصُ حَرْفًا، فَقَالَ: «إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمُوا حَلاَلًا، وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى فَلاَ بَأْسَ» فَذُكِرَ هَذَا لِلْحَسَنِ فَقَالَ: «لَوْلاَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا»، قال في الهامش [ص 57]: هذا الحديث يناقض ولا ريب حديث: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» ولكن لا بُدَّ لكل فئة من أنْ تُؤَيِّدَ رأيها بحديث، يريد الطعن فيه بالوضع والاختلاق.

وإني أقول له إنَّ هذا الحديث رواه ابن منده في " معرفة الصحابة "، والطبراني في " المعجم الكبير "، والخطيب في كتبه، وغيرهم، ونقله أئمة الحديث وأطباؤه في كتبهم، ولم يحكم عليه أحد منهم بالوضع (1)، وكنت أحب من المؤلف لو أراد البحث النزيه المستقيم أنْ ينقده نقدًا صَحِيحًا من جهة سنده أو متنه، وَيُبَيِّنُ موضع الدخل فيه، ولكنه لم يفعل، أما ما تَخَيَّلَهُ من مناقضة بين الحديثين فغير صحيح، فحديث «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا ... » للترغيب في المحافظة على المسموع وَالحَثِّ عليه، وليس من شك في أنَّ المُجَوِّزِينَ للرواية بالمعنى يرون أنَّ الأفضل والأحسن رواية الحديث بلفظه، وأما الحديث الثاني فهو لبيان جواز الرواية بالمعنى بشروطها، ثم ألا يقال لمن روى كلامًا بمعناه مع التحوط البالغ إنه أَدَّاهُ كما سمعه؟ بلى.

 

بعض الأحاديث التي يستدل بها أبو رية

4- ولكي يُدَلِّلَ المؤلف على ما جازف به من آراء فإنه ذكر أمثلة للرواية بالمعنى، فعرض لما ورد في صيغ التشهد من أحاديث، ولما ورد في «حديث الإسلام والإيمان»، وحديث «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» وحديث «مِنَ الصَّلاَةِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، وقد استغرق ذلك من كتابه عِدَّةَ صفحات، والغرض الذي قصده من وراء هذا أنْ يخلص إلى ضرر الرواية بالمعني من الناحية الدينية، وقد شاء الحق سبحانه أنْ يسقطه بسبب ما عرض له سقطات لا لما له منها، وقد أسفرت عن ضحالة المؤلف في البحث، ومبلغ علمه بالحديث، وَسَأُبَيِّنُ وجه الحق فيما عرض له مع الإيجاز...

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. مقدمة ابن الصلاح بشرحها " ص 110، طبعة الشام
  2. مفتاح السُنَّة ": ص 18

 

المصدر:

  1. محمد بن محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إنكار-السنة
اقرأ أيضا
المسألة فيها خلاف الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الثاني


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1616
قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2


مجموعة من القواعد التأصيلية يذكرها ابن القيم في كتاب الصلاة ويقف بها على عقيدة أهل السنة والجماعة وحقيقة التوحيد والشرك والإيمان والكفر وهذه القواعد التي ذكرها تمثل كليات العقيدة وبها تنضبط المسائل أصولها وفروعها وبها يعلم القارئ أحوال الناس ومراتبهم

بقلم: ابن القيم
1367
شروط لا إله إلا الله | مرابط
تعزيز اليقين إنفوجرافيك

شروط لا إله إلا الله


روى البخاري عن وهب بن منبه أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله قال: بلى ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح وبين يديكم إنفوجرافيك يوضح لنا شروط لا إله إلا الله والتي هي بمثابة أسنان هذا المفتاح الذي به نرجو أن يفتح الله لنا بابا من أبواب الجنة

بقلم: حافظ بن أحمد الحكمي
1257
مقام العبودية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقام العبودية


والعبودية هي أشرف شيء أشرف وصف للإنسان هو العبودية لله فالإنسان إنما يشرف بانتسابه للرب العظيم سبحانه وتعالى فكلما كان الإنسان عبدا لله كان أقرب إليه ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: واسجد واقترب

بقلم: عمرو الشرقاوي
327
الذين يعيشون خارج العصر | مرابط
تفريغات ثقافة

الذين يعيشون خارج العصر


قد أكون أنا وقد تكون أنت من الذين يعيشون على هامش العصر أو على أبوابه أو داخل ساحاته دون أن يلجوا إلى قاعاته ودون أن يدركوا طبيعة تحدياته وعطاءاته ولذا فإن من المهم أن نستبين صفات الذين يعيشون خارج العصر مع بعض المقارنة مع صفات الذين يعيشون زمانهم بجدارة ووعي حتى نعرف على أي أرض نقف وإلى أي فريق ننحاز وهنا نوجز صفات الذين يعيشون خارج الواقع في ست نقاط

بقلم: د عبد الكريم بكار
401
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
360