الذين يعيشون خارج العصر

الذين يعيشون خارج العصر | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

379 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قد أكون أنا، وقد تكون أنت، من الذين يعيشون على هامش العصر، أو على أبوابه، أو داخل ساحاته دون أن يلجوا إلى قاعاته، ودون أن يدركوا طبيعة تحدياته وعطاءاته، ولذا فإن من المهم أن نستبين صفات الذين يعيشون خارج العصر، مع بعض المقارنة مع صفات الذين يعيشون زمانهم بجدارةٍ ووعي، حتى نعرف على أي أرضٍ نقف، وإلى أي فريقٍ ننحاز، ولعلي أوجز تلك الصفات في المفردات الست الآتية:

 

الفهم الضعيف للواقع

أولًا: يشترك الذين يعيشون خارج العصر في أن فهمهم للواقع ضعيف، إنهم قليلو القراءة، وضعيفو الممارسة، ولذا فإنهم يستسلمون بسهولة للأخيلة والأوهام، ويقعون في الأقيسة الفاسدة، ويعلقون آمالًا كبيرة على أشياء صغيرة.

 

هناك أشخاصٌ كثيرون يغلب عليهم حب الخير، يظنون أنه يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، ولذا فإنهم يعتقدون أن المسلمين في أي بلد إذا بذلوا جهدهم في الدعوة والإصلاح، والتربية والتوجيه، فإنه يمكِن أن يمكَّن في ذلك البلد خلال ثلاث عشرة سنة كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث شرع بتشييد الكيان الإسلامي المستقل في المدينة بعد قيامه بالدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة .

وهذا لا يمكن قبوله في حالٍ من الأحوال، لماذا؟ لأنه جرت خلال هذه القرون المتطاولة تغييرات فكرية واجتماعية، وكيميائية وفيزيائية، تجعل عودة ذلك غير ممكنة.

 

بعض الناس تسيطر عليهم عقدة المؤامرة، فهم يرون أن كل سوءٍ يجري لهم، أو لأمتهم، قد حيك بإتقانٍ بالغ من قبل الأعداء والمنافسين، ومع أن العالم لا يخلو من التآمر في حقيقة الأمر، إلا أن القرآن الكريم يعلمنا أن ما يعانيه البشر -ومنهم المسلمون طبعًا- هو شيء من صنع أيديهم في المقام الأول، كما قال الله جل وعلا: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران:165] وكما قال: "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [آل عمران:117].

 

إن الذين يفسرون كل المصائب التي تحل بهم من أفق المؤامرة يوقعون أنفسهم في حالةٍ من الشلل التام، فهم دائمًا يظهرون بمظهر الذي لا حول له ولا طَول، ويصبحون كأنهم جبريون، وهذا يشجعهم على التنصل من أخطائهم، وإلقاء تبعاتها على غيرهم.

 

هناك إلى جانب هذا الصنف أشخاصٌ مكبلون بأوهام المثالية، فهم يظنون أن الأفكار والقيم والعقائد هي من القوة بحيث لا يتصور إلا تطابق سلوك الناس معها، ولذا فإنهم دائمًا غاضبون ساخطون على غيرهم، وكأنهم لا يدركون ما تحدثه الظروف الصعبة من الدخول في موازناتٍ دقيقة، ومن مراعاةٍ للمصالح، ومن انسياقٍ خلف الأهواء والشهوات، وسوء التقدير، وكأنهم لا يعرفون أن ما بين المبدأ والسلوك، وبين المثال والواقع، تصدعاتٍ ومفارقاتٍ أبدية، لأسبابٍ يعرفها أهل العلم والفكر.

وأنا لا أطالب هؤلاء إلا بفهم حقيقة ما يجري حتى يتخلصوا من التجرع المستمر للكئوس المرة.

 

التخفف من القيود الأخلاقية

ثانيًا: يظن بعض الذين يعيشون خارج العصر أن زماننا هذا هو زمان التخفف من القيود الأخلاقية، وصمِّ الآذان عن صوت العقيدة والمبدأ، وأن مَن لم يفعل ذلك يُغلَب ويخسر الكثير من الفرص والصفقات.

 

ولهذا فإن النشاط اليومي لهؤلاء هو استخفافٌ مشين بالأخلاق والقيم، والمبادئ التي يتظاهرون أنهم من حملتها، وهذا منهم سوء فهم. إذ إن العيش باستقامة ليس واجبًا، ولا خلقًا، ولا أدبًا فحسب، ولكنه أحد أهم مصادر تكوين ذاتية الإنسان، وإن الذي يخرج عن مبادئه في أعماله وعلاقاته، قد يكسب على المدى القريب، لكنه على المدى البعيد يخسر ذاته وآخرته، كما أنه أيضًا في أمور الدنيا سوف يخسر؛ لأن كسب ثقة الناس ثروةٌ كبرى، ولكن لا يمكن كسب ثقتهم من غير مصداقية، ولا مصداقية من غير استقامةٍ والتزام.

الشركات الكبرى التي استطاعت المحافظة على أسعار منتجاتها، وعلى حصتها في الأسواق، يثق مستهلكو منتجاتها بها، بسبب التزامها بجودة ما تقدمه.

 

إن لدى الناس أموالًا طائلة، لا يدرون كيف يستفيدون منها، وهم دائمًا يبحثون عن شخصٍ يجمع بين الأمانة والكفاءة، على المبدأ الوارد في قوله جل وعلا: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" [القصص:26]، وكثيرٌ من التجار الكبار كان رأس مالهم الحقيقي -وما زال- هو ما يمتلكون من نزاهةٍ وصدقٍ وأمانة.

 

التشتت بين الماضي والحاضر

ثالثًا: بعض الذين يعيشون خارج العصر موزعون بين الماضي والحاضر فهم على مستوى التصورات والمفاهيم أسرى لمقولاتٍ ماضية، يعجزون في الغالب عن التأكد من مدى صحتها، وهم على مستوى الحاضر أسرى الهموم والمشاغل، أما المستقبل فلا يستحوذ إلا على القليل من اهتماماتهم واستعداداتهم، مع أن طبيعة التدين الحق تجعل من المسلم الحق إنسانًا مستقبليًا من الطراز الأول، لكن يبدو أن انتفاع الإنسان بمبادئه لا يتم بطريقةٍ عفويةٍ ساذجة، فهؤلاء الناس لا يدركون أن التغيرات السريعة توجب عليهم أن ينظروا إلى أبعد مدىً ممكن؛ لأن السرعة الهائلة تجعل البعيد قريبًا.

 

قد علمتنا التجربة أن معظم الذين يعانون من مشكلات كبيرة، هم أشخاص مصابون أصلًا بقصر النظر، وضعف الاهتمام بالمستقبل. وبعض هؤلاء يظن أن التخطيط للمستقبل لا ينسجم مع روح التوكل على الله تعالى، وبعضهم يجعل الاهتمام بما هو قادم نوعًا من الاشتغال بالتنظير عن الاستفادة مما هو موجود، وهذا يجعل الذين يعيشون خارج العصر ينفعلون بالأحداث، بدل أن يشاركوا في صناعتها، كما يجعلهم يأتون دائمًا بعد الحدث.

 

فقدان روح المبادرة الشخصية

رابعًا: من سمات الذين يعيشون خارج العصر: أنهم يفقدون روح المبادرة الشخصية، فهم ما زالوا ينتظرون من غيرهم نوعًا من الرعاية لهم، إنهم في جوهر الأمر حملوا معهم إلى مرحلة الشباب والكهولة روح الطفولة، حيث إن الطفل يفضل عبارة: أنت لا تحبني، أنت ما أخذتني، أنت ما أعطيتني... إلخ

 

إذا حاولنا أن نعمق النظر في أحوال عصرنا، فإننا سنجد أن المبادرة الفردية قد أسهمت على نحوٍ فذ في تكوين النهضة الحديثة، وإن كثيرًا من الأعمال الجليلة، ما كان لها أن تظهر إلى الوجود، لولا أن أصحابها آمنوا بالتجاوز والانطلاق.

 

وإني أعرف أشخاصًا كثيرين لديهم أفكارٌ رائعة، لكنهم ينتظرون غيرهم ليقوم بتنفيذها، أو ليساعدهم في ذلك، لكن ذلك المنتظر طال غيابه، وربما لن يحضر أبدًا، ولو أنهم بدءوا بتنفيذ ما يقبل التنفيذ منها لوجدوا كثيرين ينظمون إليهم، ويساعدونهم على إكمالها.

 

إن التربية العامة لدينا ما زالت تركز على تنشئة الإنسان التابع، والمعتمد على غيره، مع أن الوضعية العامة للتكليف في الإسلام تؤكد على تنمية روح المبادرة، وروح تحمل المسئولية، وسلوك طرق الخير، مهما كانت مهجورةً وموحشة، على حد ما نلمسه في قول الله جل وعلا: "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [البقرة:148] وقوله: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران:133] وقوله: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164] وقوله: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى" [النجم:39-41].

 

الاهتمام بالوقت شبه معدوم

خامسًا: اهتمام الذين يعيشون خارج العصر بالوقت شبه معدوم، فالذي لا يتم إنجازه اليوم، يمكن أن ينجز غدًا أو بعد غد، وهم على خبرة واسعة بقتل الوقت، وإنفاقه في أعمالٍ لا تعود عليهم أو على غيرهم بأي فائدة.
العالم المتقدم اخترع آلاتٍ لقياس أجزاء الثانية عنوانًا على أهمية الوقت في الحياة المعاصرة، والذين يعيشون خارج العصر يستخدمون في التعامل مع الزمن الأيام والشهور، للدلالة على أنهم ينتمون إلى غير هذا العالم، وغير هذا الزمان، وبما أن القوم يعيشون من غير أهدافٍ واضحة، فإن مطالبتهم بالحرص على الوقت قد تكون غير ذات معنى.

 

الإهمال والفوضى

سادسًا وأخيرًا: الإهمال والفوضى سمتان ملازمتان لكثيرٍ ممن يعيشون خارج العصر، إهمال للصحة والمظهر، والعمل والأهل، والعلاقات الاجتماعية، الفوضى تضرب أطنابها في كل شئون حياتهم، حيث إن لديهم دائمًا التزاماتٍ كثيرة، وإنجازاتٍ قليلة؛ لأنه ليس لديهم البرامج لتحقيقها، كل شيءٍ في حياتهم جائز، ويمكن أن تتوقع منهم أي شيء، هذا مع أن الذين قدَّموا إنجازات كبرى للبشرية في هذا الزمان، كانوا دائمًا يبدون اهتمامًا بكل شيء، حتى التفاصيل الصغيرة، وهم إلى جانب ذلك منظمون في حياتهم الشخصية والعامة، وفي أسلوب تفكيرهم وأعمالهم، كما أنهم يعتقدون أن التحلي بفضيلة الاهتمام شرطٌ للإنجاز العالي.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العيش-خارج-العصر
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج3


ما البديل لفشل الأمة الإسلامية في العلوم الحياتية هل البديل أن نعتمد على غيرنا فنستورد كل شيء وهل تقوم أمة على أكتاف غيرها بل هل تقوم أمة على أكتاف أعدائها فمعظم الاستيراد يأتينا من بلاد محتلة لنا هل هذا يعقل هل هذا أمر مقبول شرعا هل هذا أمر شرعي أن أكون متخلفا في التصنيع لدرجة أنني أعتمد على عدوي في التصنيع وأستورد منه هذه الأمور

بقلم: د راغب السرجاني
645
عقيدة الشيعة في أئمتهم | مرابط
تفريغات

عقيدة الشيعة في أئمتهم


جزء من محاضرة للشيخ عمر الأشقر يتحدث فيه عن عقيدة الشيعة في أئمتهم ويبين أن الشيعة يعتقدون في أئمتهم أنهم معصومون عن الخطأ وكلامهم ككلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يخطئون ويقولون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه هو خليفة المسلمين وإمامهم

بقلم: عمر الأشقر
960
الفتور بعد الهمة | مرابط
مقالات

الفتور بعد الهمة


لقد جعل الله تعالى للباقيات الصالحات مواسم زمانية ومكانية ترتفع فيها الهمة والنشاط على العبادة والعمل الصالح وعندما تنتهي تلك المواسم يعود المرء بطبيعة الحال إلى ما كان عليه من قبل وربما يشعر الصادقون عندئذ بحالة من عدم الرضا بل ربما يتهمون أنفسهم بالنفاق وهنا لا بد من تقديم الطرح العلمي المتوازن الذي يستند إلى أدلة الشرع الذي يراعي طبائع النفس البشرية

بقلم: د. جمال الباشا
368
جوهر العولمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

جوهر العولمة


جوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم ترشيدها أي إخضاعها لقوانين مادية عامة مثل قوانين العرض والطلب والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
600
كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة | مرابط
تاريخ

كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة


عن ابن عمر قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء دخل إلى أهله أو قال جمع أهله فقال: إني نهيت عن كذا وكذا والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا وإني والله لا أوتي برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر

بقلم: حاكم المطيري
540
لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه على اجتراء المرأة في العصر الحديث ويقف على معنى الحرية التي تعنيها المرأة ونظرتها التي لا تخلو من الجور إلى الرجل ومآلات هذه النظرة إذا وصلت إلى كل بيت من بيوت المسلمين وإذا سمعتها كل واحدة من النساء ومالت إليها

بقلم: محمود شاكر
1787