الفتور بعد الهمة

الفتور بعد الهمة | مرابط

الكاتب: د. جمال الباشا

380 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

لقد جعل الله تعالى للباقيات الصالحات مواسمَ زمانيةً ومكانيةً ترتفع فيها الهمَّةُ والنشاط على العبادة والعمل الصالح، وعندما تنتهي تلك المواسم يعود المرء بطبيعة الحال إلى ما كان عليه من قبل، وربما يشعر الصادقون عندئذٍ بحالة من عدم الرضا، بل ربما يتهمون أنفسهم بالنفاق. ومما يزيد الأمرَ تشويشًا على الناس ما يسمعونه من التقريع والتوبيخ الذي يجلد به الخطباءُ والوعاظُ الناسَ بعدَ مواسم الطاعات، ويلومونهم على الفتور وتراجع الهمة بعباراتٍ قاسيةٍ وأسلوبٍ فجّ.

 

وهنا لا بد من تقديم الطرح العلمي المتوازن الذي يستند إلى أدلة الشرع الذي يُراعي طبائع النفس البشرية وانفعالاتها وتقلباتها، لا إلى إملاءات الظنِّ والهوى التي قد يظن أصحابها أنها سبيل الرشاد.

 

وخلاصة ما يمكن طرحُه عن وسطية النظرة الشرعية في هذا المقام؛ أنَّ النفس لها إقبال وإدبار، ونشاط وفتور، وأنَّ هذا التأرجُحَ بين الصعود والنزول أمر طبيعي مقبول في حدود معينة، وهو الذي عبَّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لحنظلة: (ولكن ساعة وساعة).

 

فعندما يذهب المسلم لأداء الحج والعمرة ويشرُع في أداء المناسك يشعر بأنَّ روحه تحلِّق عاليا، مترفعة عن كثير من الجواذب الأرضية والملهيات التي كانت تحول بينه وبين هذا السمو الروحي.

 

قل مثلَ ذلك في شهر رمضان المبارك حينما يكون شغل القلب مع تحقيق الصيام التام، والقيام الحسن، واغتنام الأوقات بذكر الله تعالى وتلاوة كتابه الكريم.
وقُل مثلَ ذلك عند موت الأحبة، أو زيارة المقابر، أو عيادة المرضى، أو رؤية أهل البلاء، أو سماع موعظة مؤثرة، كل ذلك من عوامل رفع الهمة والنشاط في العمل الصالح، وهذا ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم بال "شِرَّة" فقال: (إنَّ لكل عملٍ شرًّة) أي نشاط وهمة وحماسة.

 

وبعد هذا الارتفاع والصعود لا بد وأن يعود المرءُ إلى حالته الأولى قبل الارتفاع، وهذا الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بال "فترة"، أي الفتور والضعف بعد النشاط، فقال: (وإنَّ لكل شِرَّةٍ فترة).

 

الآن يأتي دور القضية المفصلية الدقيقة التي تلتبس على كثير من الوعاظ، الذين يريدون من الناس أن تكون أحوالهم الإيمانية بعد المواسم كما كانت عليه عندها، مع أنهم يشعرون في قرارة أنفسهم تجاه هذا المطلب بأنه غير واقعي، وأنه غير متحقق فيهم أساسا.

 

متى يكون الفتور بعد الهمة محمودا، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم "رشدا"، ومتى يكون مذموما وقد سماه الحبيب "هلاكا"؟!!

 

تتمَّة الحديث تبين ذلك بجلاء: (فمن كانت فترتُه إلى سنتي فقد رشد، ومن كانت فترتُه إلى غير ذلك فقد هلك).

 

أيها المبارك ..
أريدك الآن أن ترسم في ذهنك خطًا مستقيمًا له رأسُ سهمٍ في طرفه الأيمن يشير إلى اتجاه الحركة.
ثم ارسم خطًا بيانيًا منحنيا صعودًا ونزولا كالهضاب، يتجه من بداية المستقيم الأول يسارًا وينتهي مع رأس السهم في اليمين، شريطةَ أن لا ينزل المنحني عن الخط المستقيم. بهذا تكون قد أنهيت الصورة الأولى.

 

مرَّة أخرى، ارسم الخط المستقيم الأول كما وصفتُ لك، ثمَّ أتبِعه بالمنحني البياني الصاعد والنازل، ولكن هذه المرة عليك أن تستمرَّ بالمنحنى النازل سُفلًا إلى ما دون الخط المستقيم. وبهذا تكون قد أنهيت الصورة الثانية.

 

لعلك الآن قد أدركتَ المقصود، وبلغتَ الهدف المنشود.
إنَّ الصورة الأولى تمثل الحالة الأولى الواردة في الحديث، وهي صورة فتور العبد الصالح بعد الهمة العالية ليعود إلى حالة الاستقامة الأولى التي كان عليها قبل النشاط، وهي لزوم السنة الواجبة بفعل المأمورات وترك المحظورات، فمن فعل ذلك "فقد رشَد"، ولا يستحق اللوم ولا العتاب فضلاً عن الزجر والتوبيخ.

 

أما الصورة الثانية فهي التي تمثل الحالة الثانية المذمومة الواردة في الحديث الشريف، وهي ما يُمكننا أن نسميه بالانتكاسة، وهي فتور العبد بعد العمل الصالح في المواسم إلى ما دون مستوى الاستقامة، ولا يكون ذلك إلا بترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، وهذا ما يستوجب الهلاك عند الإصرار عياذا بالله.

 

بعد هذا البيان المفصَّل، أعتقد أنَّ من الواجب على الخطباء والوعاظ أن يميزوا بين هذين المستويين من الفتور كما ورد في الحديث الشريف، وأن يترفقوا بالناس وأن يُقلُّوا عليهم من اللوم والتقريع ما لم يؤدِّ بهم الفتور إلى ارتكاب الحرام، وأنَّ يكفُّوا عن إطلاق العبارات القاسية المُنفِّرة في وصف العوام بأنهم عُبّاد رمضان ونحوها، فإنها تصيبهم باليأس والإحباط وزيادة الفتور

 

(ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيرًا كثيرا).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الهمة #الفتور
اقرأ أيضا
شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟


الفقهاء ليسوا معصومين ولا يلزم أن يصيب كل واحد منهم الحق بل لا يلزم أن يصيبه أكثرهم وإن كان لا يخرج عن مجموعهم لكن المسلم غير المتفقه في الدين إذا اتبعهم فقد استجاب لأمر الله له وأبرأ ذمته وإن أخطأوا أما من اتبع هواه واستحسن رأيه من غير تفقه في الدين أو سؤال من انشغل بذلك فقد خالف أمر الله وإن أصاب الحق في نفس الأمر وعرض نفسه بذلك للإثم والعقوبة

بقلم: كريم حلمي
363
ما رأيت مثله وما رأى هو مثل نفسه | مرابط
اقتباسات وقطوف

ما رأيت مثله وما رأى هو مثل نفسه


هو شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علما ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرا إلاهيا وكرما ونصحا للأمة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.. مقتطف ماتع للإمام الذهبي يتحدث فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية بأوضح عبارة يصف لنا علمه وشيئا من مواقفه..

بقلم: الإمام الذهبي
309
صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه | مرابط
اقتباسات وقطوف

صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه


فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه والصبر على بلائه وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب والأفراح والأتراح وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
330
البركة في العلم | مرابط
مقالات

البركة في العلم


بعض العلماء لم يعرف إلا بمتن أو منظومة كابن آجروم والبيقوني أما الآجرومية فما من طالب يريد النحو إلا كانت بوابته وقل مثل ذلك في البيقونية في مصطلح الحديث. وإذا تأملت في حال بعض العلماء وجدت أن غيرهم أعلم منهم بكثير وأوسع دائرة وإحاطة لكن أثر هؤلاء العلماء أعمق من غيرهم ونفعهم أعظم ولازالت الأمة تتفيأ ظلال علومهم.. والسر في ذلك بركة العلم

بقلم: طلال الحسان
372
الجندر: المفهوم والحقيقة والغاية الجزء الأول | مرابط
الجندرية

الجندر: المفهوم والحقيقة والغاية الجزء الأول


ظهر مصطلح الجندر في سبعينيات القرن الماضي ولكنه أحدث رجة عنيفة في الساحة الفكرية والاجتماعية بعدما تم إدخاله في كل المجالات تقريبا وتم إعادة صياغة المصطلح ليعبر عن الأدوار الاجتماعية والميول الشخصية فقد يشعر الرجل أنه امرأة وتشعر المرأة أنها رجل أما مصطلح الجنس فهو لا يعبر إلا عن الجانب البيولوجي أو العضوي الجنسي ومن هنا انفتح الباب على مصراعيه أمام الشذوذ وظهرت أشكال جديدة للعلاقات وللأسرة

بقلم: حسن حسين الوالي
2202
التقعر في الكتابة | مرابط
فكر

التقعر في الكتابة


الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار وهي كالكلام من هذه الناحية وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي

بقلم: د جمال الباشا
438