فضيلة الاستسلام

فضيلة الاستسلام | مرابط

الكاتب: عبد الله الوهيبي

312 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

حتمية الوصول

الفكرة الأساسية في خطابات التحفيز وفي كثير من أطروحات إدارة الذات تدور حول مقاومة الاستسلام. لا بد أن مرّ بك مؤخرًا مواد مرئية أو مسموعة أو مكتوبة تتضمن أفكارًا من قبيل: لا تستسلم (Don`t give up)، واصل “الإنجاز”، ثابر لتحقق أهدافك، فطموحاتك تنتظرك، وأحلامك ممكنة. وهذا التحفيز يفيد -أحيانًا- إذا خلا من المبالغة والابتذال، ولكن ماذا لو كان الخيار الأمثل هو الاستسلام؟

أود هنا أن أتبصّر في الآثار النفسية الناجمة عن تناقضات الدوافع إلى “الإنجاز”، و”النجاح” المثالي، وتعقيدات الواقع المحبطة، ونواقص الذات الجذرية.

يبدأ المرء في بناء مشروعه الشخصي ويرسم أهدافه، وينطلق لتنفيذها، ثم تواجهه المصاعب، شيئًا فشيئًا، يكسل مرةً، وينسى مرةً، ويرفض طلبه من الجهة المسؤولة، وينخفض معدله عن الطموح المأمول، وتنقصه الموارد المالية اللازمة، وتدهمه الأشغال والواجبات الاجتماعية الضرورية، وتتكاثر عليه المآزق؛ فيذبل قلبه، وتضيق نفسه، وتسودّ الحياة في عينيه، ولا يزال يمنّي نفسه بـ”حتمية الوصول” مع تعذّره، ويتفاقم به الحال ويتزايد حتى يبلغ درجة الكآبة المرضيّة. ربما تتفق معي أن هذه صورة حياة شائعة في عالم اليوم، وقد أسهم في انتشارها الجو التنافسي الذي يملأ الشبكات الجديدة، والمزاج الاستعراضي الذي تتيحه الشبكات المختلفة، فيظل الإنسان أسيرًا لحالة سوداوية من الشعور بالذنب، لتخلّفه عن أقرانه، أو عن تحقيق أهدافه التي يتابع وصول الآخرين إليها أولًا بأول.

والخطر هنا ليس في الطموح العالي، ولا في الشعور المنطقي بالذنب لأجل التقصير، وإنما في توهّم “السعي” مع فقدان الإمكانية، أو في ارتفاع التكلفة الناجمة عن هذا الطموح إلى حدّ تدمير الذات وإفسادها، إما ماديًا والعياذ بالله، أو معنويًا. وقد توصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن وجود أهداف شخصية مع فقدان الشعور بتحقّقها، من السمات المميزة لمن وقعوا في ممارسات انتحارية. وفي حالات أكثر شيوعًا، تظهر هذه التكلفة الباهظة في صورة يأس مدمّر، فاليأس –وفقًا لبحث مهم– هو الحالة التي ينخرط فيها الفرد في السعي نحو أهدافه، مع شعوره باستحالة تحقيقها، وعدم قدرته على التخلّي عنها، والذي قد يعني فشل الفرد في بناء أهداف أخرى، ربما تكون أجدر بالعناء.

الأهداف: بين الواقع والخيال

وهذه الحالة –التي يَعْلَق فيها الفرد في منتصف الطريق بين الذات والهدف- وصفها بعض الدارسين تحت مصطلح (الانخراط الأليم Painful engagement)، وطرح السؤال الآتي: لماذا يصرّ الأفراد على تمسّكهم بالأهداف التي لا يرون أنها ستتحقق؟

يمكن الاستفاضة في الإجابة بطرق شتى، ولكن يبدو أن السبب الأهم يكمن في الربط المغلوط لدى الفرد بين سعادته، وكفاءته الشخصية، ورفاهيته المستقبلية، بل وقيمته الذاتية أمام نفسه وأمام الآخرين؛ بأهداف بعينها، بحيث يبدو له أن وجوده الحقيقي مرتبط ببلوغ هذه الأهداف، وهذا الربط الجذري منبع رئيس لليأس والكآبة والقلق، بل والتفكير الانتحاري، كما توثّقه الدراسة السابقة.

ولذا لاحظت بعض الدراسات النفسية أن «الكثير من نوبات الاكتئاب يسبقها فشل في قبول الخسارة في منافسةٍ ما على المكانة»، والسعي إلى الهدف الطموح وتحقيق الحُلُم يتضمن بحثًا عن المكانة بالمعنى العام بلا شك، وترى هذه الدراسات أن للاكتئاب حينها دورًا “تكيفيًّا” مفيدًا، وهو إشعار الفرد أن كلفة المكابدة تجاوزت الحدّ المعقول، إما لاستحالة بلوغ الهدف، أو عدم ملائمته للفرد لأي سبب، ومن ثمّ فدور الاكتئاب هو تثبيط الفرد عن مواصلة مكابدة عديم الفائدة، وحثّه على قبول الخسارة المؤكدة، والاستسلام الطوعي، وترصد أن «العديد من المرضى يتعافون حين يتخلّون عن منافسة حول المكانة التي يستحيل الفوز بها» كما سترى، ويؤكد ذلك الطبيب النفسي راندولف نيس في كتابه (أسباب وجيهة للمشاعر السيئة Good Reasons for Bad Feelings) بالإشارة إلى تجربته الشخصية مع كثير من حالات الاكتئاب التي عالجها، وتجربته أيضًا في تدريس وتأهيل الأطباء لعلاجها، ويقول: «يخبرني الأطباء المقيمون الذين درّبتهم أنهم يجدون أن توجيه السؤال التالي إلى مرضى الاكتئاب مفيد للغاية؛ وهو (هل هناك شيء مهم جدًا تحاول القيام به؛ ولكنك عاجز عن النجاح فيه، ولا تستطيع الاستسلام؟)».

وتميّز المحللة النفسية السويدية إيمي غوت في كتابها (الاكتئاب المنتج وغير المنتج Productive and Unproductive Depression) المنشور عام 1989م بين نوعين من الاكتئاب كما هو واضح في عنوان كتابها، وهي ترى أن «الانسحاب الاكتئابي والتفكير المفرط من الممكن أن يحسّنا التأقلم حين تتطلب الحياة تغييرًا كبيرًا»، لأن التغيير الكبير في الحياة (وفاة، هجرة، بطالة، فشل دراسي، انفصال عاطفي…الخ) يتطلّب تباطؤًا في الفعل والقول، وتفكيرًا مليًّا في طبيعة التغيير ومآلاته، وحينها يكون المزاج المنخفض (low mood) والمتوتر والكئيب محفّزًا للفرد على البحث عن استراتيجيات جديدة. وهذا هو “الاكتئاب المنتج” بحسب المؤلفة، أما الاكتئاب غير المنتج فهو الذي يحبط النفس، ويغرق الفرد في التعاسة والبؤس المحض.

وحين يقرر المرء التخلّي عن طموح معين، ويفقد الأمل في بلوغه غاية ما؛ تهدأ نفسه، ويطمئن باله، ويتحسّن مزاجه، فاليأس –كما قالوا- إحدى الراحتين، والمعنى –كما تعرف- أن راحة الإنسان تكون إما ببلوغه غايته، أو باليأس منها، وما سوى ذلك فعذابٌ وتعب، وقد أجرت عالمة النفس الألمانية يوتا هيكهاوزن دراسة لافتة على مجموعة من النساء قد بلغن منتصف العمر لم ينجبن بعد، وكن يأملن بالإنجاب، ويطمحن إليه بشدّة، ومع اقترابهن من سن اليأس تزايدت لديهن أعراض الاكتئاب، ولكن بعد حلول سنّ اليأس تخليّن عن الأمل بالحمل، واختفت بالتزامن تلك الأعراض الاكتئابية التي كانت تقضّ مضاجعهن، ولذا فالأمل –أحيانًا- يكون من مولّدات الاكتئاب!

 الهوس بالإنجاز

على أن الاهتمام الشديد بالعمل الطموح، ومراكمة الإنجازات؛ لا ينبعث –بالضرورة- من الرغبة بالنجاح المعهود، ولا بدافع من الهمّة العالية، بل قد يتأثر عند البعض بعوامل نفسية دفينة ومتجذّرة، فوفقًا لبعض التحليلات فإن الهوس بالإنجاز المتقن والمثالية المرضيّة (Perfectionism) في تحقيق الأهداف الحياتية والمشروع الشخصي ينبع -أحيانًا- من الشعور الدائم بعدم الكفاية، ومن كراهية عميقة للذات، وهي كراهية ربما تعود أسبابها إلى الحرمان من الحبّ والاحترام في فترة الطفولة، فالرغبة المثالية بالإنجاز قد تكون تعبيرًا عن رغبة مستميتة بتطهير الذات من ضآلتها في عين صاحبها، فالغاية من تحقيق النجاحات المبهرة السعي إلى تقبّل الذات، وإعادة الاعتبار إليها، والهرب المستمر من الإحساس العميق بالدونية والوضاعة، ولو عالج المرء مسببات هذه الكراهية غير السويّة والاحتقار المرضِي بسبل أخرى أصحّ وأنجع؛ لاعتدلت في نفسه النوازع نحو الطموح، وتوازنت في نظره الدوافع الباعثة على “الإنجاز”.

الإمكانات البشرية 

إن الموجة العامة التي تدفع إلى تجميع النجاحات الشخصية، والركض خلف الطموح، تغفل إجمالًا تنوّع الإمكانات البشرية، والفروق الفردية الهائلة، والإخفاقات البنيوية في البيئة السياسية والاقتصادية، والتي تتحكم مسبقًا في التوزيع الظالم للفرص والمكافآت والامتيازات المادية والمعنوية، وغيرها من الأسباب المركبة والمؤثرة في “النجاحات” الفردية.

وفي هذه الأوقات الصعبة –وهي هكذا دائمًا- لن يشقّ عليك العثور بين أصحابك ومعارفك على أناس طموحين قد عَلِقُوا في لحظة زمنية طويلة ومتجمّدة، فلم يعد بإمكانهم “السعي”، ولا “الوصول”، ولا التخلّي أيضًا، فلا هم يعملون، ولا هم ابتهجوا بعيشهم، وقد اضطرب في دواخلهم الغضب من بؤس حالهم، وفاض هذا الغضب حتى لربما أوقعهم في شرور أنفسهم، ولهؤلاء تحديدًا أتحدث هنا. ولو نظرتَ لبان لك أن كثيرًا ممن هذه حاله؛ إنما انحرفت به السبل؛ لضعف معرفته لنفسه، وحدود إمكاناتها، وتجاهل أو جهل حدود الواقع الصلبة التي لا تبالي به، وقرأت للدكتور عاطف معتمد –وهو أكاديمي مصري مرموق ومختص بارز بالجغرافيا- منشورًا يعبّر عن ذلك من واقع تجربته الغنيّة، فيقول: «أعرف بعضًا من الأصدقاء تعافوا من أمراض نفسية وعصبية بعد أن فهموا حقيقة أنهم “ناس عادية جدًا”؛ فحين أدركوا طبيعة ما لديهم من قدرات وإمكانات نجحوا في التخلّص من عبارات وشعارات مزيّفة، عن قدراتهم، ونبوغهم وتفرّدهم، وأنه لولا الظروف لكان لهم شأن آخر؛ فمعرفة القدرات ووضعها محل التقدير دون مبالغة زاعقة؛ هو أول الطريق الصحيح».

ليس في كل ما سبق دعوة للاستسلام الكلي، ولا للقنوط واليأس، بل غاية مرادي التأكيد على التوازن بين الإمكانات والطموح، وأن “الحُلُم” الذي يُتعس صاحبه، ويصيبه بالآلام النفسية؛ لا يستحق العناء، وأن “الاستسلام” الجزئي قد يكون الخيار الأمثل أحيانًا على الأقل، وأن تغيير الطموح أو خفضه، وتجاوز بعض الأهداف إلى غيرها، والرضا باستحالة بعض الغايات، والتنازل الطوعي عن “السعي” إليها؛ يسهم في سواء الفرد النفسي وصحته العقلية واتزانه العام، وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن «أولئك الذين لديهم قدرة أكبر على تغيير أهدافهم، أو التخلّي عنها؛ كانوا في الغالب يعانون من درجة أقل من الاكتئاب»، لا سيما في المراحل المبكرة في العمر، والتي تتسم بالحماس المفرط، والاندفاع الطموح، كما رصدت ذلك دراسة مفيدة أخرى.

ثم يقال بعد ذلك كله؛ إنه غاية المؤمن القصوى في هذا العالم هو إتمام التعبد لله تعالى، وتوحيد القصد للرب، وإصلاح القلب ورعايته، ومتابعة الحق حيث كان، ومن حفظ أصول الإسلام وأركانه، وداوم على الذكر والنوافل، وحسُنت أخلاقه؛ فليس عليه أن يأسى على شيء فاته من الدنيا، فإنها لا تساوي برمتها جناح بعوضة.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاستسلام
اقرأ أيضا
دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط
فكر مقالات

دلالة الدقيق من الخلق على الله


لا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته ولا تستصغر قدره لقلة ثمن ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله ولم تفترق الأمور في حقائقها وإنما افترق المفكرون فيها ومن أهمل النظر وأغفل مواضع الفرق وفصول الحدود فمن قبل ترك النظر ومن قبل قطع النظر ومن قبل النظر من غير وجه النظر ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا

بقلم: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
2909
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط
فكر مقالات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات


نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض أجل وهذه الشعوب نفسها هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على...

بقلم: محمود شاكر
1308
الأعمال تشفع لصاحبها | مرابط
مقالات

الأعمال تشفع لصاحبها


الأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.

بقلم: ابن القيم
423
مستقبل الثقافة وماضيها | مرابط
مقالات

مستقبل الثقافة وماضيها


إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقف في مفترق طرق لا يدري أيها يسلك وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد ولما يشهد لأهلها من شهود العلم وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد.

بقلم: البشير الإبراهيمي
322
الجندرة: مطية الشذوذ الجنسي | مرابط
الجندرية

الجندرة: مطية الشذوذ الجنسي


شاع استعمال مصطلح الجندر أو الجندرة في أدبيات العديد من الأقلام -خاصة النسائية وتم تداوله على نطاق كبير بمعنى مخالف لمعناه الحقيقي والغريب في الأمر أن غالب هذه الأقلام لا يعوزها سعة الإطلاع ولا حسن الفهم الشيء الذي يجعل تغليب حسن الظن أمرا متكلفا فما الدافع ترى لهذا التزييف أهو تمرير أجندة مشبوهة تحت ستار تقدمي مقبول أم هو استجابة لشهوة حب الظهور في المقاعد الأمامية لقطار النظام العالمي الجديد والانشغال بالتلويح باليدين -للجمهور المتفرج- عن النظر لما بداخل القطار

بقلم: نزار محمد عثمان
3007
شبهات حول المرأة الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة الجزء الثاني


يمكن القول بأن الجاهلية جمعت شبهاتها حول الشريعة في المرأة وقد انعكست الطبيعة العاطفية لهذه القضية على هذه الشبهات مما ساهم في طرحها على سرعة التفاعل معها وخصوصا عندما تكون الأحكام الشرعية في الأساس غير مرهونة بمعرفة العلة العقلية منها ومن هنا كانت مواجهة شبهات الكافرين والمنافقين حول المرأة في حقيقتها مواجهة لأبعاد أساسية في قضية الشبهات الجاهلية حول الشريعة الإسلامية وليست مجرد شبهة واحدة كغيرها من الشبهات

بقلم: رفاعي جمعة
1821