هل هناك فلسفة إسلامية أم لا؟

هل هناك فلسفة إسلامية أم لا؟ | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

528 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

اختلفت مواقف الباحثين كثيرًا، فمنهم من تبنى القول بأنه ليس هناك فلسفة إسلامية، وأن غاية ما وجد في المجال الإسلامي إنما هو نقل وترجمة حرفية عن الفلسفة اليونانية وغيرها، ومنهم من ذهب إلى إثبات وجود خاص للفلسفة الإسلامية، وإثبات أنها فلسفة نمت وترعرعت في أحضان الثقافة الإسلامية، واختلف أصحاب هذا الموقف في تحديد التسمية المناسبة لها، فمنهم من سماها الفلسفة الإسلامية، ومنهم من اختار أن يسميها الفلسفة العربية.

وقد استند أصحاب الموقف الثاني إلى مستندات عديدة، ومن أقوى مستنداتهم: الارتكاز إلى ما أنتجه الفلاسفة المشهورون في الفكر الإسلامية، ومن أشهرهم: الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، بحجة أن ما أنتجه هؤلاء يمثل صورة الفلسفة الإسلامية.

بين فلسفتين

وحتى نخرج في هذه القضية برؤية ناضجة ومقاربة للحقيقة؛ فإنه لا بد أن نفرق بين مستويين:

الأول: الحديث عن الفلسفة من حيث التصورات والمفاهيم، فلا شك أن هناك فلسفة إسلامية، ولا ريب أن دين الإسلام يتضمن مواقف خاصة به في القضايا الأساسية المكونة لعلم الفلسفة.

الثاني: الحديث عن الفلسفة كعلم مستقل وقائم بنفسه، فعلى هذا المستوى فما هو موجود في التاريخ الإسلامي لا يمثل الفلسفة الإسلامية، ولا يعبر عن مضمونها وروحها، ولا مسارها المعرفي.

فما يُعرف بعلم الفلسفة في التاريخ الإسلامي -وخاصة ما أنتجه الثلاثي الشهير: الفارابي، وابن سينا، وابن رشد- لا يصح جعله ممثلا لحقيقة الفلسفة الإسلامية، ولا معبرا عن ماهية المخزون الفلسفي في النصوص الشرعية.

ويدل على هذا ثلاثة أدلة، وهي:

- الدليل الأول: إن أولئك النفر تبنّوا نظريات كثيرة تخالف أصول الإسلام، وتناقض مبادئه، وقد بلغت العشرات، ومن أشهرها: مسألة قِدم العالم، ومسألة إنكار علم الله بالجزئيات، ومسألة إنكار بعث الله للأجساد، ومسألة إنكار الصفات الإلهية، ومسألة إنكار حقيقة النبوة.

وقد سعوا جاهدين في أن يبيثوا أن موقفهم ليس مخالفا لحقيقة ما جاء به الإسلام، ولكن منتهى قولهم -حتى بعد التعديل والتوضيح- هو المناقضة لقطعيات الدين الظاهرة. فإذا كان حال فلسفتهم كذلك، فكيف تكون ممثلة للفلسفة التي جاء بها الإسلام، ومعبرة عن حقيقتها؟!!

- الدليل الثاني: إن أولئك الفلاسفة يعدون الشريعة متأخرة عن الفلسفة في منزلة العلم، ويذهبون إلى أنها ليست طريقا لبناء المعارف البرهانية، فالفارابي صرح بأن الشريعة متأخرة عن الفلسفة في منزلة العلوم التي تدعوا إليه، وفي طريقة بناء تصوراتها؛ لأنها تعتمد على التخييل والتقريب، والتشبيه في بيان حقائقها، ولا تعتمد على البرهان، ولأنها تتوجه من حيث الأصل إلى الجمهور بالأساليب التي تناسبهم، ولا تخاطب الخاصة الذين هم الفلاسفة(1).

وأما ابن سينا؛ فأنه صرح بأن أمر الشرع: «ينبغي أن يعمل فيه بقانون واحد وهو: أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يراد بها خطاب الجهور كافة»، وأكد على أن ما كان متوجها إلى الجمهور؛ فإنه يعتمد على الأساليب الخطابية التشبيهية التقريبية، ولهذا كان «التوحيد تشبيه كله»!؟ (2)

وأما ابن رشد؛ فإن موقفه يتصف بالغموض والتردد بين الاحتمالات، ولكن الذي يدل عليه مجمل كلامه: أن الفلسفة لا تستمد من الدين، وأن كثيرا من ظواهر نصوص الشريعة لا تلزم الخاصة، وإنما يجب الأخذ بظواهرها على الجمهور والعامة فقط، وأكد على أن نصوص الشريعة إذا خالفت البرهان -قضايا الفلسفة-؛ فإنه يجب تأويلها وصرفها عن ظاهرها! (3)

ومن خلال التحليل السابق؛ فإنه يظهر بجلاء أن محصل ما ينتهي إليه موقف أولئك الفلاسفة: أن الشريعة ليست مصدرا من مصادر الفلسفة، ولا هي منبعا من منابعه، وإنما هي قرينة للفلسفة، بل هي متأخرة عنها، وأن الفلسفة صنو للشريعة، وربما تؤول إذا وقعت المخالفة بينهما.

فإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف تكون تلك الفلسفة ممثلة لروح الفلسفة الإسلامية، ومبينة لحقيقتها، وهم يعدونها أعلى منها مقاما وثبوتا؟!

- الدليل الثالث: تأكيدهم على أنهم متبعون لفلاسفة اليونان -وخاصة أرسطو- وعلى أن ما جاء عن أولئك الفلاسفة يمثل قمة النضج الفسلفي وأنصح صوره، وقد صرح الفارابي بأن: «الفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونان». (4)

وأما ابن سينا؛ فإنه يرى أن أرسطو قد بلغ درجة من الفلسفة لم يصل إليها أحد قبله ولا بعده وأنه «يحق على من بعده أن يلموا شعثه ويرموا ثلما يجدونه فيما بناه، ويفرعوا أصولا أعطاها» (5)، وقد طبق ذلك بنفسه؛ فكان أنضج وآخر صورة قدمها من الفلسفة مواقف في جملتها لما جاء عن أرسطو مقتف فيها أثره.

وأما ابن رشد؛ فقد وصل إلى أقبح صورة يمكن أن يصل إليها المقلدون، فقد بالغ في اتباعه لمقالات أرسطو، وأنفق فيها عمره، وبالغ في وصف أسطو بالأوصاف العظيمة، حيث يقول: "ما أعجب شأن هذا الرجل، وما أشد مباينة فطرته للفطر الإنسانية، حتى كأنه الذي أبرزته العناية الإلهية؛ لتوقفنا -معشر الناس- على وجود الكمال الأقصى في النوع الإنساني" ويرى أنه ليس للبشر مجال إلا الاختلاف في فهم آرائه فقط، فيقول "أرسطو هو أصل كل فلسفة، ولا يمكن الاختلاف في غير تفسير أقواله، وفي النتائج التي تستخرج منها"(6)

وعلى تأكيد تبعية هؤلاء وغيرهم للفلسفة اليونانية تتابع عدد من المهتمين بالشأن السلفي في العالم الإسلام، ومن أبرز هؤلاء ابن تيمية، حيث يقول:  «مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالهما، كالسهروردي المقتول على الزندقة، وكأبي بكر بن الصائغ، وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين أتباع أرسطو صاحب المنطق، وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت» (7)

ويقول الشهرستاني بعد أن سرد قائمة طويلة من المشتغلين بالفلسفة في التاريخ الإسلامي: "وإنما علّامة القوم: أبو علي، الحسين بن عبد الله ابن سينا، قد سلكوا كلهم طريقة أرسطو، في جميع ما ذهب إليه وانفرد به، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين" (8)

ويقول القفطي: «وأقرب الجماعة حالا في تفهيم مقاصده -أرسطو- في كلامه الفارابي أبو نصر وابن سينا، فإنهما دققا وحققا، فحملا علمه على الوجه المقصود، وأعذبا منه، لوارده مهله المورود، ووافقاه على شيء من أصوله» (9)

- فالكلام السابق يركد على أن أولئك النفر مقلدون من حيث الأصل لليونان في فلسفتهم ومتبعون لهم في نظرياتهم، فكيف يكونون مع ذلك ممثلين لروح الفلسفة الإسلامية معبرين عنها؟


الإشارات المرجعية:

  1. انظر: الحروف، الفارابي (130-133)
  2. الأضحوية، ابن سينا(44)
  3. انظر: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ابن رشد (109-110)
  4. الحروف، الفارابي (159)
  5. منطق المشرقيين، ابن سينا
  6. انظر في توثيق هذه المقالات: الحد الأرسطي، أصول الفلسفة وآثاره العلمية، للباحث (404)
  7. الرد على المنطقيين، ابن تيمية (335)
  8. الملل والنحل، الشهرستاني (490)
  9. إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القفطي (46)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الفلسفة-الإسلامية
اقرأ أيضا
مهارة الحفظ | مرابط
ثقافة

مهارة الحفظ


قدرة الحفظ لها لياقة تنمو بالمراس والمران والدربة والمزاولة ومعيار اللياقة أمران: أن تزيد كفاءة وفعالية المهارة وأن تثمر المهارة نتائجها دون مشقة وتعب مفرط. وهذان يحصلان كما سبق بكثرة التمرين واستمراره.

بقلم: إبراهيم السكران
324
حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها | مرابط
النسوية

حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها


مع انتشار موجة النسوية وما تحمله من أفكار مخالفة للشريعة فإن من الواجب على المصلحين أن يعتنوا بمقاومة هذه الموجة ويبنوا أسوار الوقاية من أضرارها وينقضوا أصولها ويكشفوا زيف شعاراتها بالحجة والبرهان. غير أن بعض من يقاوم هذه الموجة يتعامل بطريقة تزيد من انتشارها بدلا من تقليصها وهذا ما يوضحه الكاتب في مقال موجز.

بقلم: أحمد يوسف السيد
622
تصوير ناسا أم خلق ناسا؟ | مرابط
تفريغات

تصوير ناسا أم خلق ناسا؟


أيها الكرام نشرت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا صورا تشويقية لما قالت أنه أعمق صور للكون تلتقط حتى الآن على الإطلاق وهذه الصور تبين جانبا من عظمة الكون من حولنا. الملفت للنظر أن هذه الصور نفسها تزيد الذين آمنوا إيمانا وتزيد المنبهرين بالغرب سفها وكفرانا.

بقلم: د. إياد قنيبي
343
أثر الإيمان في بناء الأمم ج3 | مرابط
تفريغات

أثر الإيمان في بناء الأمم ج3


محاضرة هامة عن عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم ولماذا تنهار أمم وشعوب ولماذا تبقى غيرها فالأمر يحتاج إلى وقت طويل ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا

بقلم: د سفر الحوالي
514
الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية | مرابط
تاريخ

الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية


نشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة كما أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة وشكلت جيلا من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويرجع الفضل في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى -بعد الله- إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبص...

بقلم: د علي الصلابي
1231
منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج1 | مرابط
تفريغات

منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج1


لقد كان الصحابة يثبتون لله الأسماء والصفات كما أثبتها القرآن والسنة ولذلك نحن نقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ أبو إسحق الحويني يقف فيها على مسألة الأسماء والصفات وعقيدة السلف في ذلك

بقلم: أبو إسحق الحويني
707