ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟

ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟ | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

732 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف .. "الحضارة" بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي, وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك, أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين, بل ويؤلمهم, لأنهم يريدون بالكثير من حسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام, لكن هذه هي الحقيقة.

إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هم في ذاتهم, أي كما كانوا فعلًا لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقًا لميول المستهلك, الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون, النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما عاش فعلًا بين حرَّات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

والشواهد وأوجه الدلالة التي تبرهن أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام وتحقيق شرائعه تابعة لهذا الهدف, وليست غاية في حد ذاتها أو مجالًا لمنافسة الشعوب والأمم في امتلاك الدنيا, هي شواهد تفوق الحصر.

مركزية الدنيا

لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس "مركزية الآخرة" في مقابل "مركزية الدنيا", هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده, ولكننا كثيرًا ما نحب أن نتجاهل ذلك, ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.

تدفعنا كثيرًا محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية "العمران المادي"! والحقيقة أننا نكذب على القرآن, ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.

لا.. أبدًا.. لم يأت القرآن بألوية العمارة المادية, بل جاء لعكس ذلك تمامًا, جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا, جاء القرآن ليحول الدنيا من "غاية" إلى مجرد "وسيلة".

بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلًا, فالدنيا في التصور القرآني مجرد "وسيلة" خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفًا من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.

المصلحة المؤبدة والمصلحة المؤقتة

إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة, ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.

كثير من النخب المثقفة يشعر بالتبرم حين يسمع كلام القرآن في ذم الدنيا, لأنهم يخشون أن ينصرف الناس عن هذه الوسيلة فنبقى مجتمعًا ضعيفًا, وهذا نوع من الاستدراك على الله!

ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية, والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى.

نماذج من الوحي

كثيرًا ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني, وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟ كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].

وكشف تعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]

بل ويشير تعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه فيقول تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلاأَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]

فانظر كيف عرض الله سبحانه وتعالى "المعايش المدنية" باعتبارها "نعمة" من الله لابتلاء الناس, لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس, ثم يؤكد تعالى على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج:41]

وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية, وأن الدنيا في يده لاتعظيم لها في قلبه, لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله, فيقول تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُوَالأَبْصَارُ} [النور:37]

وينبه الله تعالى في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية, ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية, فقال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]

وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في "ميزان الله" فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزانه سبحانه وتعالى, أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!

وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة, فلاتخلوا مجموعة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب, ولهو, ومتاع, وزينة, ونحوها من الألقاب, والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها "لذة مؤقتة".


المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2


الأساس الأول الذي بنيت عليه أمة الإسلام والذي بنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم وبغيره لا تقوم أمة ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظمه ونجله وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فهذا تفتقده الأمم الأخرى فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة ب...

بقلم: د راغب السرجاني
680
فتنة النساء.. إصدار خاص | مرابط
المرأة

فتنة النساء.. إصدار خاص


بدأت أؤمن أن فتنة النساء بالنسبة للرجال ليست مقتصرة أبدا على الانجذاب الفطري لها بشكل محرم إذا لم تكن زوجة أو بشكل يؤدي إلى محرم إذا كانت زوجته ولكن يؤدي التعلق بها إلى حرام آخر في اكتساب المال أو عقوق الوالدين وغير ذلك.

بقلم: معتز عبد الرحمن
330
شبهة: لماذا فرض الله الحجاب على المرأة دون الرجل؟ | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهة: لماذا فرض الله الحجاب على المرأة دون الرجل؟


تشريع الحجاب للمرأة في الحقيقة حفظ لحقوقها وحقوق غيرها من أخواتها وضبط لقاعدة التعامل بالعدل معها وتشريف للمرأة بأن جعل التعامل معها يكون بقوانين العدل لا بقوانين الجمال والقبح وقوانين الإغراء فتتحول إلى سلعة يختلف الرجال في تقويمها

بقلم: د سلطان العميري
662
موانع قبول الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

موانع قبول الحق


مقتطف رائع لابن قيم الجوزية من كتاب هداية الحيارى يشير فيه إلى موانع قبول الحق التي تحول بين الشخص وبين الانقياد للحق حتى لو أنه ليس جاهلا به فهناك الكثير من المحاور الأخرى أو الأسباب الأخرى التي تمنع ذلك وهنا يستعرضها لنا بشكل دقيق

بقلم: ابن القيم
2163
من مناظرات الإمام الشافعي | مرابط
مناظرات تفريغات

من مناظرات الإمام الشافعي


والشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جدا وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحدا قط فيرفع صوته وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه وكان يقول: ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني. ويقول: ما ناظرت أحدا قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق. وكان يقول: ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ. وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقا. وقال: ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة.

بقلم: محمد المنجد
1138
الوقاية بالغض من البصر | مرابط
تفريغات

الوقاية بالغض من البصر


إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة!

بقلم: محمد صالح المنجد
291