مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله

مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1159 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

معضلة يوثيفرو

من أشهر الاعتراضات التي يوردها الملاحدة على دليل القيم والمبادئ ما يسمى معضلة يوثيفرو Euthyphro، وهو رجل من اليونان نسبت إليه المعضلة، وقد كانت نتيجة حوار بينه وبين سقراط، وكان يرى أن مصدر الأخلاق يرجع إلى الإله، فقال له سقراط: هل الأخلاق حسنة لأن الله يريدها أم أن الله أرادها لأنها حسنة؟

فإن قلت بالأول - إن الأخلاق حسنه لأن الله أمر بها - فمعنى ذلك أن الأخلاق ليس لها معيار إلا إرادة الله فقط، وهذا يعني أن الأخلاق أمور وهمية لا حقيقة لها، وإنما مرجعها إلى ذات الله وإرادته، وذلك يصيّر الأخلاق أمورا ذاتية اعتبارية فقط لا وجود حقيقيا لها ولا قوانين لها، فإذا أمر الله بالقتل فإن القتل حينئذ سيكون أمرا حسنا، وإذا أراد الله أن ينهى عن الصدق والرحمة فستكون حينئذ أمورا قبيحة.

وإن قلت بالثاني - إن الله أمر بالأخلاق لأنها حسنة في ذاتها - فمعنى ذلك أن الأخلاق مستقلة عن ذات الله، وحاكمة على اختياراته وإرادته، وهذا يناقض تمام القدرة والعلم الإلهيتين، ويدل أيضا على أن الإله خاضع لمعانٍ أعلى منه وأقدم. ويدل أيضا على أننا لسنا في حاجة إلى الله ليكون مصدرا للأخلاق؛ لأنه يمكن لنا أن ندرك تلك المعايير التي كانت حاكمة على إرادة الله فنحكم بها، فلا يدل وجود الأخلاق إذن على ضرورة وجود الخالق.

 

قضية المعرفة

وهذه المحاججة يمكن أن تطبق على قضية المعرفة، فيقال: لماذا كان الصواب صوابا؟ هل لأن الله أراد أن يكون صوابا؟ أم أراده الله لأنه صوابا في نفسه؟ ولماذا كانت الحقيقة حقيقة، هل لأن الله أراد أن تكون كذلك، أم أرادها الله لأنها كذلك؟ وقد فرح الملاحدة كثيرا بهذه الطريقة في الاستدلال وطفقوا يكررونها في كل محفل، ولا يكاد يذكر دليل القيم والمبادئ على وجود الله إلا ويذكرونها على سبيل المعارضة لذلك الدليل والإبطال له.

 

الاستدلال بالقيم والمبادئ على وجود الله

وهذه المحاججة لا يصح الاعتراض بها على الاستدلال بالقيم والمبادئ على وجود الله تعالى؛ لأنها مبنية على أغلاط متعددة في التصور عن الله تعالى وعن علاقته بالكون، ومتضمنة لعدد من المغالطات الحجاجية، فهي قائمة على التصور اليوناني عن الله تعالى وعن كماله، فلا يصح تعميمها على كل الأديان. ترجع أصول الأغلاط التصورية التي تقوم عليها تلك المحاججة إلى ثلاثة أغلاط أساسية:

الغلط الأول: أنها تقوم على تصور خاطئ عن علاقة الله بالموجودات، فالله تعالى هو الخالق لكل شيء في الموجود، سواء كان ذلك الشيء من الأمور العينية، كالجبال والشجر والبحار، أو من الأمور المعنوية، كمعنى الرحمة والرأفة وحسن الصدق وقبح الكذب ونحو ذلك، فلا يوجد شيء غير الله تعالى من الأعيان أو من المعايير والسنن إلا وهو مخلوق له سبحانه.

فالحسن والقبح والخير والشر والعدل والظلم كلها معانٍ داخلة في خلق الله تعالى، فلا يتصور أنها خارجة عنه، ولا وجود لها قبل أن يخلقها الله، فهو الذي خلق الصدق وجعله على هيئة الحُسن الذي هو عليه، وهو الذي خلق العدل وجعله على هيئة الحُسن الذي هو عليه، وهو الذي خلق الكذب والظلم وجعلهما على هيئة القبح الذي جعله في مخلوقاته.

وهو مع ذلك الذي خلق العقل الإنساني على هيئة يدرك بها حسن الأفعال الحسنة وقبح الأفعال القبيحة.

فكل هذه الأمور– أعني معنى الحسن والقبح والخير والشرك والأفعال المتضمنة بالحسن والقبح والخير والشر والعقل الإنساني المدرك للحسن والقبح والخير والشر- مخلوقة لله تعالى، وهو الذي صنعها وهيأها على هذه الحال، فلا شيء يخرج عن قدرته وإرادته وقبضته.

ولو أراد الله أن يغير شيئا من تلك الهيئات والأحوال لما استطاع أحد أن يمنعه، ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لكمال حكمته.

الغلط الثاني: أنها مبنية على الغفلة عن صفة الحكمة الإلهية، ومن أقام تلك المحاججة يتعامل مع الله وكأنه يخلق الأمور ويأمر بها بمحض الإرادة والقدرة فقط، ويُعرض عن صفة الحكمة، ولأجل هذا تصور أن الله يمكن أن يأمر بما هو شر محض، ويكون بذلك أمرا أخلاقيا.

والحقيقة أن ما اتصف الله به من كمال مطلق في الحكمة والعلم والقدرة والإرادة يمنع أن يأمر الله بما هو شر محض، ويعتقد المسلمون أن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما هو شر.

الغلط الثالث: أنها مبنية على الخلط بين معنى الخلق ومعنى الأمر، فالله تعالى خلق كل شيء في الوجود، حسنه وقبيحه، فلا يخرج شيء في الوجود عن خلقه سبحانه، ولكنه لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح، فالأمر التكليفي أضيق من الخلق، ودائرة الخلق تشمل ما أمر الله به وما لم يأمر به.
 

المغالطات المنطقية

ونتيجة لهذه الأغلاط التي تلبست بها تلك المحاججة أضحت قائمة على عدد من المغالطات المنطقية.

المغالطة الأولى: التصوير الزائف، وهي أن يصور المناظر المسألة التي وقع فيه الاختلاف بصورة غير الصورة التي هي عليها، ويطلب من المخالف لها أن يناقشها بناء على ذلك التصوير.

والمغالطة الثانية: الحصر المخادع، وهي أن يحصر المناظر الاحتمالات المتعلقة بالجواب على سؤال في عدد معين ثم يطلب من مناظره أن يختار منها احتمالا، ويكون الجواب الصحيح في احتمال آخر لم يذكره فيما حدده من احتمالات. فالمعتمد على تلك المحاججة أقام حجته على أن الله تعالى يمكن أن يفعل لمحض الإرادة من غير حكمة، وأن معيار الحسن والقبح خارج عن خلق الله وقدرته، ثم جعل الخيارات منحصرة في أمرين: إما أن يكون الله مريدا للأخلاق لأجل إرادته فقط وإما أنه أرادها لأنها حسنة!

وهذا الحصر للاحتمالات لا يصح أن يرد إلا في حالة أن يكون الفاعل ليس متصفا بالحكمة فهو يفعل الأمور لمحض المشيئة فقط، ولا يصح أن يرد أيضا إلا في حال أن تكون الأمور الموجودة في الواقع ثلاثة، هي الفاعل ومعيار الحسن والقبح والفعل المجرد، وكل واحد مستقل عن الآخر، حتى يمكن أن يتصور في العقل أن يختار الفاعل فعلا ما لأجل معيار معين خارج عن قدرته وإرادته.

وكل هذه الأمور غير ممكنة الوقوع في حق الله تعالى، فالله تعالى لا يفعل فعلا بغير حكمة إلهية، وأيضا فمعيار الحسن والقبح وكذلك الأفعال ليست أمورا مستقلة عن الله تعالى، حتى يقال: هل اختار الله الفعل الأخلاقي لكون حسنا أم لا؟ بل هو سبحانه الخالق لها والموجد لحقيقتها، فهو سبحانه أصلها وأساسها، والعقل الإنساني المدرك لها هو من خلق الله أيضا.

فلا يوجد في التصور العقلي إلا فرض واحد فقط، هو أن الله أمر بالأفعال الحسنة لأنه خلقها على هيئة حسنة ولأن حكمته لا تأمر إلا بما هو حسن، ونهى عن الأفعال القبيحة لأنه هيأها على هذه الهيئة وحكمته تقتضي ألا يأمر بما هو قبيح.

وبناء على هذا التوضيح فما ذكر في السؤال من حصر الاحتمالات خطأ، بل هناك احتمال ثالث هو المتفق مع طبيعة علاقة الله بالكون وطبيعة كماله سبحانه، وهو ما سبق بيانه.

 

تساؤلات

فإن قيل: ما زال السؤال قائما، فلماذا جعل الله الحسن مقياسا للأخلاق الحسنة والقبح مقياسا للأخلاق القبيحة؟

قيل: هذا السؤال سفسطي لا قيمة له، ويمكن أن يورد على كل شيء في الوجود، فيقال: لماذا جعل الله الموجود موجودا والمعدوم معدوما؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الموجود موجودا لأن الله أراد له ذلك، أم أن الله تعالى أراده كذلك لأنه موجود؟

ولماذا جعل الله الكبير كبيرا والصغير صغيرا؟ ولماذا جعل الكبير أكبر من الصغير؟ وعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الكبير كبيرا لأن الله أراده كذلك أم أن الله أراده كذلك لأنه كبير؟

ولماذا جعل الله الأبيض أبيضا والأسود أسودا؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الأبيض أبيضا لأن الله أراد أن يكون كذلك أم أن الله أراده لأنه أبيض في نفسه؟

ولماذا جعل الله العلم علما والجهل جهلا؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان العلم علما لأن الله أراده كذلك أم أن الله أراده كذلك لأنه علم في نفسه؟ وكل هذه الأسئلة عند التأمل فيها هي من قبيل السفسطة والاعتراضات التي لا تقوم على أسس صحيحة.

والجواب المستقيم عليها جميعا أن يقال: كانت تلك الأمور وغيرها كذلك لأن الله تعالى يتصف بالكمال المطلق، فخلق الخلق بمعاييره وقوانينه وسننه ومشاهده على هذه الهيئة التي نعلمها لتحقق المصالح والحكم التي يريدها الله تعالى، وقد نعلم نحن البشر تلك المصالح وقد لا نعملها، ولو شاء الله تعالى أن يخلق الخلق على هيئة أخرى تقوم على قوانين ومعايير وسنن أخرى لفعل سبحانه.


 

المصدر:

موقع هداية الملحدين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-الملحدين
اقرأ أيضا
المسألة فيها خلاف الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الأول


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1655
قراءة الأحداث بعيون زرقاء | مرابط
فكر

قراءة الأحداث بعيون زرقاء


رغم أن الأعين الزرقاء لم يأت بجديد في قراءة الأحداث إلا أن ضحايا الاستبداد الثقافي يتلهفون دائما للحصول على ختم الصلاحية لأفكارهم وعقائدهم ولذلك يفرحون إذا وافقتهم الثقافة الغربية في فكرة أو فكرتين.. ويطيرون إذا قال الرجل الأبيض شيئا موافقا لثقافة وأفكار المسلمين! فهذا يأتي بمثابة صك الصلاحية وكأن لسان حالهم: الآن لا نخجل مما نعتقده الآن لا حرج على أفكارنا!

بقلم: محمود خطاب
288
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: فضائلهن وخصائصهن | مرابط
تفريغات

أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: فضائلهن وخصائصهن


كما أن في الرجال رجالا أفاضل سبقوا إلى الإسلام وأفنوا أعمارهم في العلم والدعوة والجهاد فكذلك في نساء الأمة فضليات كن شامات في هذه الأمة المباركة وكن عونا لرجالهن على مهامهم في خدمة دين الله تعالى وفي مقدمتهن أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن إذ عشن في بيت النبوة وخدمن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلن عنه أقواله وأفعاله وأحواله في خاصة بيته وأهله

بقلم: د إبراهيم بن محمد الحقيل
1947
لا يأمن البلاء من يأمن البلاء | مرابط
أباطيل وشبهات

لا يأمن البلاء من يأمن البلاء


هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يلح في الدعاء بأن يثبت الله قلبه على الدين وأن يعيذه من فتنة المحيا والممات ومن فتنة الدجال. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يدعو الله بأن بجنبه عبادة الأصنام وهو المعصوم! فمن هذا الذي يأمن على نفسه فيلج إلى مواطن الفتن غير آبه؟ ومن تلك التي تحسب نفسها من الملائكة فتلج إلى مواضع الشبهات غير عابئة بأي شيء؟

بقلم: محمود خطاب
428
الوجه القبيح للحضارة الغربية | مرابط
فكر مقالات

الوجه القبيح للحضارة الغربية


إن الصورة الناصعة اللامعة التي ينشرها الإعلام للمجتمع الغربي والحضارة الغربية بشكل عام تخفي خلفها الكثير من الملامح القبيحة التي تشمئز منها النفوس فهذا الوجه المترع بمساحيق التجميل يخفي خلفه الكثير من الدماء والاستعباد والتجويع والحصار والإفقار بل وتجاوز كل ذلك ووصل إلى الشذوذ الجنسي والاستغلال الجسدي للأطفال بجانب استعبادهم وإجبارهم على العمل في السخرة وهذا ما يحلله المؤلف في المقال

بقلم: راغب السرجاني
2221
تفسير سورة العصر 1 | مرابط
تفريغات

تفسير سورة العصر 1


سورة العصر سورة عظيمة فيها من النصح وفيها من التوجيه وفيها من بيان الأحكام وفيها من دلالة الإنسان وإيقاظ عقله وقلبه وتنبيهه أيضا إلى رشده ما يستيقظ منه الغافل لو تدبر وتأمل هذه السورة التي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل على أمة محمد إلا هذه السورة لكفتهم يعني: سورة العصر وهذه السورة فيها من المعاني العظيمة التي يتوقف الإنسان عندها حائرا مما تضمنته مع قصرها فهي من قصار سور القرآن ولكنها عظيمة المعاني

بقلم: عبد العزيز الطريفي
545