مشكلة خفاء الله

مشكلة خفاء الله | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1675 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودًا حقيقة، فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور؛ فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله.. ولكن واقعنا اليوم يُخبر أن طوائف من الناس (ملحدة) لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد.
 
الجواب: تُعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة "الخفاء الإلهي" "divine hiddenness" وهي تقوم على زعمين، أولهما: أنه إذا كان الله موجودًا، فلا بد أن يكون وجوده واضحًا للجميع بلا أدنى ريبة، وثانيهما: أن وجود الله غير بيّن لجُل الناس..

 

والجواب من أوجه:

 

العلم بوجود الله

أولًا: العلم بوجود الله حقيقة أطبقت عليها الأمم السابقة، حتى قال عامة الفلاسفة قبل قرون: إن أعظم حجة على وجود الله تواطؤ الناس على ذلك، وهو ما يعرف بحجة "Consensus gentium" وذاك برهان عملي أنه وجود غير خفي؛ بل ظاهر للبليد والذكي على مر القرون وتتابع الحضارات، وقد أصابه ساكن غابات الأمازون، والعاكف على النظر في مكتبات بغداد القديمة.
 
والإلحاد شذوذ طارئ لم يبدأ رصده كظاهرة جماعية إلا في آخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، وكفى بذلك برهانا على وضوح وجود الله ودنوه من عقل الإنسان، وقد كانت دعوة الأنبياء دائمًا متجهة إلى إفراد الرب بالطاعة لا إثبات وجود الخالق؛ فلم يكن أمر الخالق مصدرًا لنزاع لالتزام السابقين فهم الكون أنه أثر عن عظيم أو عظماء من غير جنس البشر.
 

أدلة وجود الله في كل شيء

ثانيًا: الناظر بعدل وعمق في أدلة وجود الله يرى أنها تتخذ الوجود كله حجة لمطلبها؛ النفس والعقل والقلب.. والزمان والمكان والمادة والحياة.. أصل الوجود وطبيعته ومآله.. ظواهر السماء ومحافل الأرض.. حال الأمس، وواقع اليوم، ورجاء الغد.. بسط الرخاء والنعمة، وغصة الضيق والشدة.. فلم تذر لرأي المخالف مجالا للمناجزة.. بل اتخذت من حجج المخالف للإلحاد (مثل مشكلة الشر) حجة للإيمان بطريق سديدة.
 

ارتباط الإنسان بعبادة الله والتوجه إليه

ثالثًا: خلق الله الإنسان ليتجه إليه بالإيمان والعبادة، وزوده لذلك بثلاثة دوافع تضمن له بلوغ الإيمان بالله وتوحيده إذا سلمت من فاسد الموانع، وهي:
 
أ- ختم الميثاث الأول: قال تعالى "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم! قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك". فالختم الأول في النفس الإنسانية الميثاق الذي أخذ على المرء قبل أن يخرج من ضيق الرحم إلى فسيح الأرض، وهو أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.
 
ب- الفطرة: الفطرة هي الحال الأولي للنفس، وهي تظهر -بالفعل، بعد كمونها بالقوة- عند نضوج العقل؛ بالتمييز بين الحق والباطل، حيث تكون مستعدة للميل إلى الإيمان؛ بل منجذبة إليه. قال تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
 
ت- العقل: العقل آلة النظر في الكون، ومعرفة الأسباب بآثارها. والنظر في الكون والنفس كفيل بهداية الإنسان إلى الحق في أمر الخالق ووحدانيته، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

 

التأصيل الفلسفي للإلحاد

رابعًا: التأصيل الفلسفي للإلحاد -كما هو عند عامة رؤوس الملاحدة- لا ينتهي عند إنكار وجود إله، وإنما يجمع مع ذلك -وإن دون تصريح أو التزام من عامة الملاحدة- الشك في العقل والحس -كما سبق، وسيأتي معنا في هذا الكتاب-؛ والشك في الحس عمى، والقدح في العقل جنون..
 

دلائل وجود الله والإرادة الإنسانية

خامسًا: ظهور دلائل الوجود الإلهي في كون خلق فيه الناس للاختبار في باب التصديق والفعل، ليس هو الظهور القهري الذي يشُلّ إرادة الإنسان عن النكران، ويمنعه موقف الرفض والامتناع؛ ولذلك فمحض وجود منكرين لوجود إله ليس مما يحتج به منصف لإنكار التجلي الإلهي في باب الآثار، إذ قد أريد لهذا الوجود أن يقسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط المنيبين، وفسطاط الجاحدين.

 

"كل دين لا يقول إن الإله خفي، ليس دينًا حقًا". الفيلسوف (بليز باسكال)

 

إن "البرهان المقنع" المتوهم في العقل الإلحادي هو ذاك الذي يقمع الإرادة الحرة ويمنعها من الاختيار بين الإيمان والكفران، وهو خصيم طبيعة الإيمان الديني الذي يمدح الإيمان بالغيب لأنه طريق السالكين في الدُّلجة إلى الحقيق. قال تعالى "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" وقال سبحانه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
 
وهذا الخفاء الإلهي -غير الكلي، وغير الملغز- هو الذي يحفز الدهري إلى أن يبحث عن معنى الحياة، ويجد في طلب ذلك، وهو أيضًا الذي يدفع المؤمن إلى أن يجتهد في العلو في مراقي المعرفة حتى يبلغ مرتبة القائل "لو كشف الغطاء؛ ما ازددت يقينًا" فهو واقع إيجابي يدفع النفس الخاملة إلى أن تثور على كسلها وتفك غمامة الجهل لتعرف الرب عن قصد وحب.

 

"محاولتك بيان الحق لمن لا يحبه، لا تعدو أن تكون بذلا لمزيد من الأفكار ليسيء تفسيره" (جورج ماك دونالد)

 


 

المصدر:

سامي عامري، براهين وجود الله، ص145

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سامي-عامري #أدلة-وجود-الله
اقرأ أيضا
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
616
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
667
لم نفعلها وحسبت علينا | مرابط
فكر مقالات

لم نفعلها وحسبت علينا


حين يقف الإنسان في اليوم الآخر لحظة تسليم الصحائف والاطلاع على محتوياتها فإن الإنسان ربما لن يتفاجأ كثيرا من خطايا نفذها فعلا وقام بها فهو قد علم مسبقا بأنه سيراها في صحيفته ولكن المفاجأة المذهلة أن يجد الإنسان في صحيفته خطايا لم يفعلها هو ومع ذلك يجدها مدونة في كتاب أعماله ربما يجد الإنسان في صحيفته خطايا لعشرات الأشخاص بل ربما لمئات الأشخاص بل ربما لملايين الأشخاص وكلها محسوبة في صحيفة سيئاته وسيحاسبه الله عليها

بقلم: إبراهيم السكران
1263
نظرة الإسلام للثقة بالنفس | مرابط
فكر

نظرة الإسلام للثقة بالنفس


يقول بعض المنتسبين إلى العلم يقول: إن لفظ الثقة بالنفس لا يجوز وعللوا ذلك بأن على المرء أن يثق بالله في كل شؤونه لا بنفسه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: ولا تكلني لنفسي طرفة عين ويتناول علم النفس وبعض المختصين فيه من المسلمين هذا اللفظ الثقة بالنفس على أنه ضرورة ملحة لكل مسلم فما حقيقة هذا القول

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر البراك
412
المؤثرون الذين لا يؤثرون | مرابط
فكر

المؤثرون الذين لا يؤثرون


ما أعظمها من مصيبة حين يتحول الإيجابيون والمؤثرون وطلبة العلم والدعاة والمستشارون من الإنتاج المعرفي والعلمي والتطبيق العملي وتحقيق الأهداف وخدمة المجتمع إلى الاستهلاك فحسب وحين يتحول هؤلاء الصفوة من البحث عن الدقائق الضائعة طمعا في توظيفها والاستفادة منها إلى إهدار الساعات الطوال على توافه شبكة الإنترنت

بقلم: محمد بن سعد العوشن
843
دور محمد علي الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

دور محمد علي الجزء الأول


لقد لعب محمد علي دورا بارزا في إحكام السيطرة على الحالة الإسلامية في مصر وفي العالم الإسلامي بشكل عام عندما استطاعت فرنسا أن تحتويه وتوفر له كل الإمدادات اللازمة حتى يحقق أهدافها في بلادنا وكان على رأس هذه الأهداف الانفصال عن الدولة العثمانية والمساهمة في إضعافها بشتى الطرق والهدف الهام الثاني هو بداية التغريب وسحق الروح الإسلامية المتبقية وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على محاور هذا الموضوع كلها وما يتفرع عنها وما نتعلمه منها من دروس الهدف هنا أن ندرك ما حدث في بلادنا حتى نفهم كيف وصلنا إلى...

بقلم: محمد قطب
2110