الباطل إذا دخل القلب لا يخرج بسهولة
فقال المنصوح: لا يخفى عليك يا أخي أن الباطل إذا دخل في القلوب وتمكن منه لا يخرج بسهولة، فأريد أن توضح لي توضيحًا تامًّا بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون، فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم؛ ليغتر به من لا بصيرة له.
فقال له الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان، وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحد من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه، فأنبئك على وجه الإجمال والتنبيه اللطيف:
إذا أردت أن تقابل بين الأشياء المتباينات فانظر إلى أساسها الذي أُسِّست عليه، وإلى قواعدها التي أنبتت عليها، وانظر إلى آثارها ونتائجها وثمراتها المتفرعة عنها، وانظر إلى أدلتها وبراهينها التي بها ثبتت، وانظر إلى ما تحتوي وتشتمل عليه من الصلاح والمنافع ومن المفاسد والمضار، فعند ذلك إذا نظرت لهذه الأمور بفهم صحيح وعقل رجيح، ظهر لك الأمر عيانًا.
الدين الحق الذي دعت إليه الرسل
فإذا عرفت هذه الأصول؛ فهذا الدين الحقُّ الذي دعت إليه الرسل عمومًا، وخاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خصوصًا، قد بُني وأُسِّس على التوحيد والتألُّه لله وحده لا شريك له، حبًّا، وخوفًا، ورجاء، وإخلاصًا، وانقيادًا، وإذعانًا لربوبيته، واستسلامًا لعبوديته، قد دلَّ على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، ودلَّت عليه جميع الكتب السماوية، وقرَّره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة، والألباب الرزينة، والأخلاق العالية، والآداب السامية؛ كلُّ أولئك اتفقوا على أن الله منفرد بالوحدانية، منعوت بكل صفة كمال، موصوف بغاية الجلال والعظمة والكبرياء والجمال، وأنه ربُّ كلِّ شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وأنه منزَّه عن كلِّ صفة نقص وعن مماثلة المخلوقين، وأنه لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر إلا هو، فالدين الإسلامي على هذا الأصل أُسِّس، وعليه قام واستقام.
ما عليه أهل الإلحاد
وأما ما عليه أهل الإلحاد، فإنه ينافي هذا الأصل غاية المنافاة؛ فإنه مبني على إنكار البارئ رأسًا، فضلًا عن الاعتراف له بالكمال، وعن القيام بأوجب الواجبات، وأفرض الفروض؛ وهو عبوديته وحده لا شريك له.
فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكارًا لأظهر الأشياء وأوضحها، فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف؟ {فَبِأَيِ ّحَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه، وعن التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع، وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلوِّ قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك، فهم أجهل الناس، وأقلُّهم بصيرة ومعرفة بشريعة الإسلام، وأصول الدين وفروعه.
فتجدهم يكتبون ويتكلمون، ويدَّعون لأنفسهم من العلم والمعرفة والثقافة واليقين ما لا يصل إليه أكابر العلماء، ولو طلب من أحدهم أن يتكلم عن أصل من أصول الدين العظيمة الذي لا يسع أحدًا جهله، أو على حكم من الأحكام في العبادات والمعاملات والأنكحة، لظهر عجزه، ولم يصل إلى ما وصل إليه كثير من صغار طلبة العلم الشرعي. فكيف يثق العاقل- فضلًا عن المؤمن- بأقوالهم عن الدين؟ فأقوالهم في مسائل الدين لا قيمة لها أصلًا، ولو سبرت حاصل ما عليه رؤساؤهم لرأيتهم قد اشتغلوا بشيء يسير من علوم العربية، وترددوا في قراءة الصحف التي على مشربهم، وتمرَّنوا على الكلام الذي من جنس أساليب كثير من هذه الصحف الرديئة الساقطة، فظنوا بأنفسهم، وظنَّ بهم أتباعهم الاضطلاع بالمعارف والعلوم، فهذا أسمى ما يصلون إليه في العلم. أما الأخلاق فلا تسأل عن أخلاق من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يعتقد الأديان الصحيحة، فإن الأخلاق نتائج الاعتقادات الصحيحة والفاسدة.
فغاية ما عند هؤلاء التملق القولي والفعلي، والخضوع الكاذب للمخلوقين، وهم مع هذا الخضوع السافل تجد عندهم من العجب والكبر واحتقار الخلق والاستنكاف عن مخالطة من يستنقصونهم شيئًا كثيرًا، فهم أوضع خلق الله وأعظمهم كبرًا وتيهًا.
ثم إنهم يستعينون على هذا الخُلق المسمَّى عندهم بالثقافة، بالتصنع والتجمل بالملابس والفرش والزخارف،، ويُفنون كثيرًا من أوقاتهم بذلك، وقلوبهم خراب خالية من الهدى والأخلاق الجميلة، فالجمال الظاهر الباطل ماذا يغني عن الجمال الحقيقي.
ثم إذا لحظت إلى غاياتهم ومقاصدهم فإذا هي أغراض دنية، ومقاصد سفلية، ومطامع شخصية، وإذا سبرت أحوالهم رأيتهم إذا اجتمعوا تظنهم أصدقاء مجتمعين، فإذا افترقوا فهم الأعداء {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
وما وصفت لك من أحوالهم – وأنت تعرف ذلك – قليل من كثير، فكيف ترضى أن يكون هؤلاء أحبابك وأصدقاؤك؛ ترضى لرضاهم، وتسخط لسخطهم، وتقدمهم على حظوظك الحقيقية وسعادتك الأبدية؟
فانظر إلى صفاتهم نظر التحقيق والإنصاف، وقارن بينها وبين نعوت البررة الأخيار الذين امتلأت قلوبهم من محبة الله والإنابة إليه، والإيمان وإخلاص العمل لأجله، وفاضت ألسنتهم بذكر الله والثناء عليه، واشتغلت جوارحهم في كل وسيلة تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رضوانه وثوابه ونفع الخلق، أشجع الناس قلوبًا وأصدقهم قولًا، وأطهرهم أخلاقًا وأزكاهم عملًا، وأقربهم إلى كل خير، وأبعدهم من كلِّ شرٍّ، يكفون عن الخلق الأذى، ويبذلون لهم الندى، ويصبرون منهم على الأذى.
أفتقدم على هؤلاء الأنجاب الغرر مَن مُلِئت قلوبهم من الشك والنفاق، وفاضت على ظاهرهم فاكتسوا لذلك أرذل الأخلاق، يقومون بالنفاق والرياء، ويقعدون بالتملق والإعجاب والكبرياء، وصفُهم القسوة والطمع والجشع، ونعتهم الكذب والغش والبهرجة والخنوع، قد منعوا إحسانهم لكل مخلوق، واتصفوا بكل فسوق، قد خضعوا في بحوثهم العلمية لكل مارق، وتبعوا في أخلاقهم كل رذيل وفاسق.
قال المنصوح: والله ما تعديت في وصفهم مثقال ذرة.
المصدر:
- مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/251)