لا أحد يملك الحقيقة المطلقة

لا أحد يملك الحقيقة المطلقة | مرابط

من المقولات الفكرية الرائحة على كثير من الألسنة قولهم: الحقيقة نسبية، أو لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، أو أن الحق ليس حكرًا على أحد، ونحو ذلك من عبارات تكشف عن رؤية سيّالة تلغي وجود معيار ثابت يميز من خلاله الحق عن الباطل أو الصواب من الخطأ، فما هو حق عندك لا يلزم أن يكون حقا عند غيرك، ولا أن يكون حقًا في الأمر نفسه، والعكس بالعكس، وعليه؛ فلا يصح مصادرة آراء الآخرين أو الجزم بخطئهم، فالحق في النهاية نسبي، وهي وجهات نظر ليس إلا.

 

إشكالية الرؤية السيّالة أو دعوى النسبية

 

وليس الإشكال هنا في مسائل محدودة أو قضايا معينة تدخل في إطار الاجتهاد أو الظن، فالقول بنسبية الحقيقة في مثل هذه الأمور الظنية الاجتهادية، والتي يصح في مثلها قول الإمام الشافعي: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" لا إشكال فيه، مع الإقرار بوجود حق في الأمر نفسه، وإنما النسبي إدراك الناس له.

 

إنما الإشكال في الإطلاق الذي تدعيه هذه الكلمة، والتي يلزم من طردها سلب المحكمات والقطعيات الدينية وصفها، وهو معنى مقصود عند بعض من يطلق هذه المقولة، وربما سلب سائر المحكمات الداخلة في نطاق المعرفة البشرية وصف الإحكام.

 

وما من شك في أن هذه الرؤية السيّالة للحقيقة مخالفة لمحكمات الوحي وقطعيات الشريعة، فالشريعة تقرر بووح وجود حزمة من المحكمات التي لا تقبل المنازعة، وترى فيها حقا مطلقا يجب اعتقاده، في مقابل بطلان ما يضادها من مبادئ ومعتقدات.

 

وهو أمر يمكن تلمسه في عدد كبير من التقريرات القرآنية، كقوله الله تعالى "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" وكقوله "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" وكقوله "وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" .. فالإسلام حق، والرسول حق، والقرآن حق، والله هو الحق المبين "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ"

 

مآلات القول بالنسبية المطلقة

 

والقول بالنسبية المطلقة يؤول في الحقيقة إلى المساواة بين مسائل الشريعة جميعا وإلحاق قطعياتها برتبة الظنيات، وهو ما ينزع عن أركان الإيمان والإسلام وأصول الدين وصف القطعية الذي تتمته به، وتجعل مسائل الشريعة جميعا مسائل خلافية يسوغ فيها الخلاف، مهما كانت أدلة تلك المسائل قطعية، ومهما وقع لها من إجماع بيّن قطعي.

 

وهو على خلاف ما تسعى الشريعة بداهة لتقريره في محكماتها، فهي تتطلب أن يكون المرء فيها مستيقنا غير مرتاب، قال الله تعالى "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"

 

معارضة دعوى النسبية لبداهة العقول

 

ودعوى النسبية المطلقة في الحقيقة معارضة أيضًا للبداهة العقلية، إذ إن إنكار المطلق، والإيمان بالنسبي، سيؤدي حتما إلى انتفاء الصواب والخطأ الموضوعي من الوجود، فإن ما كان صوابا عند شخص قد يكون خطأ عند آخر، وما كان حسنا جميلا عند جماعة يمكن أن يكون سيئًا قبيحًا عند آخرين، فبناء على القول بالنسبية يمكن أن يكون الاعتداء على الضعفاء وظلمهم، وقتل الأطفال وجعل أجسادهم وقودًا للطبخ وكل ما تتصوره من القبائح، أمورًا حسنة.

 

وإن قال لك من يتبنى النسبية المطلقة: لكنها قبيحة عندي.. فهذا لا يدفع الشناعة، إذ هو بقوله بالنسبية لا يستطيع الجزم بقبحها في الأمر نفسه، ولسان حاله هنا أن يقول: قولي بأنها قبيح يحتمل الخطأ، وقو غيري بحسنها يحتمل الصواب.. وهو تقرير قبيح كما ترى.

 

النسبية جسر السفسطة

 

بل إن القول بنسبية الحقيقة مع مخالفته للعقل الصريح ومقتضى الفطرة، فإنه يفتح باب السفسطة على مصاعيه، فإن الضروريات العقلية لا يصح أن تكون موضعا للنسبية؛ فمبدأ السببية العامة والذي يقول بأن لكل أمر حادث سبب، قاعدة مطلقة لا تدخلها النسبية، ومدعي النسبية يلزمه ادعاء إمكان أن يحدث شيء من لا شيء، وهي سفسطة وتنكر للبداهة العقلية، وقل الأمر نفسه في مبدأ عدم التناقض، فمن الممتنع المستحيل عقلا أن يوجد جسم متحرك وساكن في الوقت نفسه، فمن قال بنسبية هذه الحقيقة لزمه تجويز وقوع مثل هذا، وهي سفسطة ظاهرة.

 

ويمكن إبطال قول القائل بنسبية الحقيقة بنفس قاعدة هذه النسبية بطريقة سهلة جدًا، بأن يقال له: هذا القول نفسه هل هو حقيقة مطلقة أم هو قضية نسبية؟ فإن قال: هي حقيقة مطلقة نقض دعواه، فاعترف بأن الحقيقة ليست نسبية دائمًا. وإن قال: هي نسبية نقض دعواه أيضًا، فما دامت نسبية فلا معنى أن يتعامل معها كحقيقة مطلقة.

 

ولمزيد توضيح فإن القائل بالنسبية لا يخلو حاله من أحد خيارين:

 

الأول: أن يجعل باب النسبية مفتوحا دون ضبطة بأي ضوابط أو حدود ويلزم عنه إمكان جعل الباطل حقا والرذيلة أمرًا شريفًا.
والثاني: أن يجعل للنسبية ضوابط وحدودًا، فينقض بذلك دعواه بأن النسبية مطلقة، وصار مصرحا بأن هناك حدودًا ومجالات لا يصح دخول النسبية إليها.

 

وإقرار الشخص بوجود ضوابط وحدود للنسبية هو براء من التصور السيّال للنسبية، وهو مهم جدًا، فمع إدراكنا أن عامة من يطلق القول بنسبية الحقيقة لا يستحضر بالضرورة ما يترتب على إطلاق هذا القول من لوازم فاسدة، فضلا عن أن يتبنى بجدية رؤية الاتجاه الشكي الذي يذكر عادة في أبحاث الإبستمولوجيا ونظرية المعرفة تحت سؤال يقينية المعرفة.

 

فإن أثر من يستعملون هذه العبارة يوظفونها في مساحات معينة وهو ما يستوجب معالجة هذه العبارة وبيان وجه فسادها، وانتزاع اعتراف قائلها بأنه لا يتبنى حقيقتها الكاملة، ولا يعتقد اطرادها في كل مجال، وهي عودة منه إلى أرضية مشتركة تعترف بوجود قيم مطلقة، وهو ما يمكننا من المحاورة والبحث والنقاش في تلك المساحات المخلتلف فيها بعيدا عن هذا الوهم الفاسد الذي يمكن أن تخلفه هذه المقولة، بأنه لا داعي للدخول التفصيلي في مناقشة هذه المسائل إذ الحق فيها نسبي.

 

فاستبانة فساد هذه المقولة يستلزم من صاحبها الانحياز إلى موقف عقلاني يقر بوجود قطعيات وضرورات تمثل حقائق مطلقة فيقع البحث والمجادلة للتعرف إليها وإلى ما يمكن أن يكون نسبيا من المعارف والعلوم وفق معيار حاكم يحدد في ضوئه ما هو حق وما هو باطل.

 

وقد يقع الاختلاف في طبيعة هذا المعيار الحاكم، أو صواب الرجوع إليه في محاكمة التصورات والأفكار وتحديد مساحات الإحكام والتشابه فيها، والأمر في تحديد الصواب والخطأ هنا يعود بطبيعة الحال إلى الأدلة في الموضوع ومدى قوتها وتضافرها ووجود ما يعارضها، فمن مجموع ذلك تتضح القطعيات التي لا تحتمل النسبية، والمسائل التي تحتمل النسبية.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص191
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
إشكالات الاختلاط | مرابط
المرأة

إشكالات الاختلاط


صورة التطبيع والتسليم مع الاختلاط أن يبحث عن ضوابط الاختلاط مع إغفال أصل المشكلة مثلا كثير من الدول العربية ليس فيها جامعات منفصلة فيأت مثلا بعضهم فلا يبحث عن حكم هذه الجامعات من أصلها وهل هي بصورتها المعاصرة القبيحة مما يقاس عليه خروج المرأة قديما إلى السوق لحاجتها

بقلم: محمد ياسين
379
إياك نعبد وإياك نستعين | مرابط
تفريغات

إياك نعبد وإياك نستعين


العبودية في قوله: إياك نعبد الفاتحة:5 العبودية هي التذلل والخضوع ولهذا تقول العرب: طريق معبد أي: مذلل إذا ذلل الناس الطريق بشيء من توطينه وتهيئته للسير يقول: طريق معبد كذلك العبد يسمى عبدا إذا كان متذللا بين يدي سيده. وهنا قال: إياك نعبد الفاتحة:5 لا نتذلل إلا لك سبحانك وتعاليت في هذا التذلل إلا لله جل وعلا والعبادة في ذلك مختلفة: ظاهرة وباطنة فالباطنة هي أعمال القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل على الله سبحانه وتعالى والاستعانة والخشية وغير ذلك من أمور العبادة.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
681
الحكمة من وجود الشر | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الحكمة من وجود الشر


إن عدم إحسان التعامل مع سؤال لماذا يوجد الشر وتحدث المصائب مع أن الله رحيم أدى إلى شك شريحة من الشباب والفتيات في وجود الله سبحانه وتعالى وبعضهم تجاوز الشك والحيرة إلى صريح الإنكار والجحود وما أكثر ما تغيب الحقائق بسبب النظرة الجزئية ونقص التصور وتعجل الأحكام قبل التأمل مع أنهم حين ألحدوا وتركوا الإسلام هل وجدوا تفسيرا صحيحا لموضوع الشر

بقلم: أحمد يوسف السيد
2287
التسوية بين المرأة والرجل | مرابط
المرأة

التسوية بين المرأة والرجل


إن تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحا لا يصلحه لها غيرها كالحمل والوضع والإرضاع وتربية الأولاد وخدمة البيت والقيام على شؤونه من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك.

بقلم: محمد الأمين الشنقيطي
341
فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة


إن السلف الصالح لم يكونوا بحاجة إلى أن يشرحوا ما هو واضح لديهم وضوح الشمس في رابعة النهار والمثال السابق يشبه تماما ما لو قال قائل: أعطونا مثالا واحدا على أن أحد الصحابة قال: هذا فاعل وهذا مفعول به وهذا مفعول للتمييز وهذا للحال.. إلى آخر ما هنالك من مصطلحات وضعت بعد الصحابة

بقلم: الألباني
607
مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات | مرابط
مقالات

مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات


نحن نعيش في زمن ربما لم يمر على البشرية منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى يومنا هذا زمن مثله من ناحية طبيعة انتشار الشهوات وبواعثها والتفنن في الدعوة إليها بشتى صور الدعاية والإعلامن حتى صارت الإباحيات صنعة متكاملة لها أهلها ومنتجوها وممثلوها وشركاتها ومصانعها ومخرجوها ومروجوها وأصبحت تجارة ضخمة تدخل أموالا طائلة على عرابيها.

بقلم: أحمد يوسف السيد
482