قضية اللغة العربية الجزء الثالث

قضية اللغة العربية الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

2202 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هؤلاء الخمسة

 

قبل كل شيء ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإسلامي، كانت تسير على نمط مألوف معروف، لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي تسود الناس، وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة، وفي التأليف والكتابة، وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة.. كل ذلك كان نمطًا مألوفًا متوارثًا، فجاء هؤلاء الخمسة، ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفًا وشقوا طريقًا غير طريق الإلف.. وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل، ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف.

 

عبد القادر بن عمر البغدادي

 

1- "البغدادي" .. ولد عبد القادر بن عمر البغدادي ببغداد (1030-1093 هـ - 1683-1620م) وفي الثامنة عشرة من عمره سنة 1048هـ خرج في إتمام طلب العلم، فرحل إلى الشام ثم فارقها بعد سنتين، سنة 1050، قاصدًا مصر، فلقي بها العلماء وتلقى عنهم وصحبهم، واتسع اطلاعه على ذخائر الكتب القديمة التي لم يكن يعني بها علماء زمانه، وفي سنة 1080 هـ، رحل إلى دار الخلافة بالقسطنطينية، لما فيها من ذخائر الكتب العربية التي حازتها، ولقي بها عالما جليلًا، حاز مكتبة عربية من أجل المكاتب وهو الوزير الأعظم أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد، المعروف بكوبرلي، ولا تزال مكتبته باقية بها إلى يومنا هذا، فأقام مع صاحبه سبع سنوات إلى أن عاد إلى مصر سنة 1092 هـ ثم وافاه أجله في أوائل سنة 1093
 
كان طريق البغدادي واضحًا، لم يكن في أيدي طلبة العلم سوى ما ألفوه من كتب الفقه والنحو والبلاغة وحواشيها، فأداه اطلاعه إلى معرفة الضعف الغالب على أهل زمانه، وهجرهم شعر الشعراء الفحول وأخبارهم وتاريخهم.. فعمد إلى ما في كتب النحو التي يعرفونها من شواهد الشعر العربي القديم، جاهليه وإسلاميه، فألف ثلاثة كتب تدور كلها على شرح شواهد الشعر، وضمنها روائع الشعر وأخبار الشعراء، ونوادر التاريخ فكان ذلك مقدمة لبعث التراث الأدبي وإحيائه ووضعه بين أيدي الناس.. تتبين ذلك واضحًا في كتبه الثلاثة "خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب" .. وهو شرح شواهد الكافية للرضى في النحو عدة مجلدات وشرح شواهد الشافية للرضى أيضًا وهو مجلد واحد، وشرح أبيات مغنى اللبيب لابن هشام في عدة مجلدات.

 

المرتضي الزبيدي


2- المرتضى الزبيدي.. ولد محمد بن عبد الرزاق الحسيني ببلدة بلجرام بالهند (1145-1205 هـ / 1732 - 1790م ) درس العربية وسائر العلوم على علماء الهند، ثم رحل إلى الحجاز سنة 1163-1166 ثم فارقها إلى مصر ولقي من بها من العلماء، ونفض ما في مكتباتها من الكتب العتيقة، وبقي بها إلى أن توفى - من سنة 1167 إلى سنة 1205 هـ. ولم يكن طلبة العلم يعرفون من كتب اللغة إلا قليلًا. كالمصباح المنير ومختار الصحاح، ثم القاموس المحيط للفيروزبادي على قلة، وكان الزبيدي محيطا بعلوم كثيرة، فكثر عليه طلبة العلم وأدرك ضعف ما بأيديهم من كتب اللغة، فأراد أن يضع تحت أيديهم كتابا جامعا في اللغة فألف معجمه الكبير "تاج العروس" وهو شرح لقاموس الفيروزبادي جمع فيه ما تفرق في الكتب، وأشار فيه إلى كثير من دواوين الشعر المحفوظة في المكاتب.
 
وألف لهم أيضًا شرحا على كتاب متداول وهو إحياء علوم الدين للغزالي، فذاع صيته وطارت شهرته في الآفاق، ووفدت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها وكاتبه العلماء والملوك من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب والجزائر والسودان، فكان تأليفه وكانت دروسه بعثا للتراث اللغوي والديني وإحياء لما خفي منه على الناس.

 

ابن عبد الوهاب


3- ابن عبد الوهاب.. ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (1115-1206 هـ / 1703-1792م) ببلدة العيينة بنجد، ورحل إلى الحجاز والشام والبصرة، وفتح عينيه على ما يعم نجدا والبلاد التي زارها من البدع التي حدثت، وما غمر العامة والخاصة من الأعمال والعقائد الحادثة، والتي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإسلام الأكبر فلما عاد إلى نجد لم يقنع بتأليف الكتب.
 
ورأى أن خير الطرق هو أن يتجه إلى عامة الناس في نجد، ليردهم عن البدع المستحدثة، ويسلك بهم طريق السلف في العمل والعقيدة، ولم يزل دائمًا في دعوته، يدعو ويعلم ويكتب، حتى استجاب لدعوته أمير بلدة الدرعية بنجد، الأمير محمد بن سعود في سنة 1175 هـ، فمن يومئذ صارت دعوته قوة متحركة فاتحة في قلب جزيرة العرب، وأحدث ظهور هذه القوة رجة شديدة الدوى في جنبات العالم العربي والإسلامي، وتلفت الناس يمينا وشمالا، في الهند ومصر والعراق والشام وتركيا والمغرب، والسودان..  
 
ولشدة وقع هذا الدوى وعنفه، انقسم الناس في أمره بين مؤيد له لصواب ما أتى به، ومعارض له لمناقضته الإلف الذي ألفوه. وكاد العالم الإسلامي كله يتحرك ويندمج بعضه في بعض بكل تراثه الضخم، وبكل موارث حضارته العظيمة، لكن كان قدر الله أغلب، وحصرت اليقظة الإسلامية كلها بلا معين، بين أركان الجزيرة العربية الفقيرة يومئذ، وسدت المنافذ، ومزقت الأوصال وصار الاندماج حلما من الأحلام يراود الأمة العربية الإسلامية إلى يوم الناس هذا.
 
ذلك لأن مغل "مغول" العصر الحديث وتتره كانوا أكثر يقظة وأوضح هدفًا، وأسرع حركة، وأغنى غنى، وأقدر على النهب والسلب والفتك والتدمير، وفي أيديهم دستور حضارتهم الذي وضعه الخبيث مكيافيلي ينير لهم طريق العمل.
 
 

الشوكاني


4- الشوكاني.. ولد محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ببلدة شوكان، من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء، مقر حكم المذهب الزيدي، وهم ينتسبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.. وهم يعدّون من فرق الشيعة. تفقه الشوكاني على مذهب الإمام زيد، وبرع في علمه حتى آل إليه القضاء والإفتاء ولكنه عندئذ خلع ربقة التقليد، وانتصب للاجتهاد فزيف ما لا يقوم عليه دليل من الكتاب والسنة، فثار  عليه جماعة من المقلدين في ديار الشيعة، فجادلهم وصاولهم، التزم بعقيدة السلف، وحرم التقليد وذهب في بيانه مذهب الحافظ ابن عبد البر، حيث قال: التقليد غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع قول القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه وإن تبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافة، وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا يحرم القول به في دين الله.
 
فكان قيام الشوكاني في محيط الشيعة الزيدية، صبحا جديدا يوشك أن يهز قواعد التعصب الذي درج عليه أصحاب المذاهب من أهل السنة، فضلا عن اتباع الفرق المختلفة وعلى رأسها الفرقة الغالية من الشيعة المعروفة باسم الاثنا عشرية، ألمكفرة للصحابة وللأمة كلها، [اختيارها أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنه، دون علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
 
أوجزت القول في هؤلاء الأربعة العظام، ﻷن استجابتهم للتحدي المبهم كانت مقيدة في كتب خلفوها، أو أعمال كان لها دوى لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ولأن بشائر البعث والإحياء في كتبهم وأعمالهم أظهر من أن تخفى على أحد، ولا يكاد يجادل فيها إلا من وقع في شرك الرفض لماضيه كله، أو من يغمض عينيه ويعمد إلى الاستخفاف بها بلا تدبر، بل بالتهور واللجاجة.
 
وإذا كنا بالأمس منذ قرون قلائل صرعى غفلة وفي وسن غالب، وعلى الأبواب عدو مدرب، كان أكثر يقظة، وأسرع حركة، وأغنى عنى، وأقدر على السلب والنهب والتدمير والفتك كما وصفت، فنحن اليوم أيضًا صرعى غفلة أبشع من غفلتنا الأولى، لا نكاد نحس كما أحس أسلافنا، والعدو لا على الأبواب، بل هو متغلغل منتشر يسرح في صميم هذا العالم العربي الإسلامي المترامي الأطراف، وقد تفوق على أسلافه تفوقا لا يكاد يصدق، في اليقظة المفترسة، وفي وضوح الهدف، وفي سرعة الحركة، وفي الغنى الباذخ، وهو أقدر قدرة ضارية على النهب والسلب والتدمير والفتك، ولا يزال بين يديه، بل ملء قلبه وعقله دستور مكيافيلي وقد اتسع وتطور به ونما واستفحل خبثه وتوحشت ضراوته وتشعب شره تشعبا لا يكاد يصدق.
 
لذلك وجدت أن الرجل الخامس الذي اخترت أن أذكره في الخمسة العظام يحتاج خبره إلى تفصيل لم أحتج لمثله وأنا أكتب عن أصحابه الأربعة العظام، فقد جاءوا جميعا يومئذ ليحدثوا شيئًا لم يكن مألوفًا، ولكي يشقوا بأنفسهم طريقا غير طريق الإلف، ولكنه انفرد عنهم بأنه طريقه في عمله كان أخفى من طريقهم، ولأن تقييد عمله باكلتابة كان أشق، ولأن عمله كان تحت بصر العدو وسمعه لم يغفل عنه طرفة عين، ﻹلما انقضّ علينا وظفر بنا، ٍار بنا مسارا يزيد عمله علينا خفاء، بل يفضي إلى ما هو أعظم من الخفاء، أي إلى الطمس الكامل لجميع السبل المؤدية إلى استبانة ما كان من عمله.

 


 

المصدر:

  1. محمود محمد شاكر، جمهورة المقالات، ص1196
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محمود-شاكر #اللغة-العربية
اقرأ أيضا
إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل | مرابط
مقالات المرأة

إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل


يمكن للمرأة أن توفق بين عملها خارج المنزل ودورها كزوجة وأم.. ليس بالضرورة أن يحدث تعارض أو أن يجور دورها تجاه العمل عن دورها تجاه البيت الزوج المتفاهم والمحب لزوجته سيساعدها في ذلك وبهذا يضحي أحدهما ليقوم الآخر بما يحب... أنانية أي طرف ستضر بالعلاقة.

بقلم: أحمد جلال
380
من الأخطاء الشائعة في تراكيب الجمل | مرابط
لسانيات

من الأخطاء الشائعة في تراكيب الجمل


مقتطفات متفرقة من كتاب معجم الأخطاء النحوية واللغوية والصرفية الشائعة للكاتب خضر أبو العينين يوثق فيه الكثير من الأخطاء اللغوية الشائعة التي يقع فيها الكتاب ويذكر لنا الصواب من الناحية اللغوية مثال ذلك: يقال: فتح فلان لي الباب ثم قال تفضل وهذا خطأ والصواب أن يقال: فتح فلان لي الباب فقال: تفضل إذ إن الفاء حرف عطف يدل على الترتيب والتعقيب فالجملة لا مهلة في ترتيبها بحيث تستعمل حرف ثم كقول الله -عز وجل- الذي خلقك فسواك فعدلك

بقلم: خضر أبو العينين
689
تحرير المرأة في عصر الضلالة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

تحرير المرأة في عصر الضلالة


لقد عنى أحد الباحثين المصريين مؤخرا بإصدار موسوعة ضخمة سماها تحرير المرأة في عصر الرسالة تقوم بكاملها وفق ذلك المنهج الدفاعي منهج الخذلان الذي اختطه الشيخ محمد عبده والتقط الخيط الكاتب الصحفي فهمي هويدي الذي عرض للكتاب عرضا مثيرا في مقال له بجريدة الأهرام المصرية وتوقف فيه طويلا عند الكشف الكبير الذي أبرزه الكاتب وهو حق المرأة في المبيت وحدها خارج بيتها

بقلم: جمال سلطان
341
سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام


العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه لأنه دائما عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل ألا ترى أن أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء ولو كان هذا العلم صحيحا كاملا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتما

بقلم: محمد رشيد رضا
586
اهضم مبدعا | مرابط
فكر ثقافة

اهضم مبدعا


هناك فكرة جميلة يسمونها في الغرب اسرق مبدعا وليس معنى ذلك أن تسطو على أعماله وتنسبها لنفسك وإنما معناه أن تقصد إلى نتاج مبدع في مجاله وفنه وتعكف عليه عكوف المتبتل لا تدير وجهك عنه حتى تتشربه وتقف عليه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه حتى تهضمه ويسلس لك قياد أعماله.

بقلم: د. طلال من فواز الحسان
374
المطالعة | مرابط
فكر مقالات

المطالعة


وقصة البخاري في بغداد أعجب لما جاء البخاري بغداد وقعد للدرس وكان شابا أراد بعض المحدثين أن يختبروا حفظه فجاؤوا بمائة حديث فخلطوا متونها بأسانيدها أي أنهم جعلوا سند هذا المتن لذاك وسند ذاك لهذا ثم جاؤوا بعشرة أشخاص فحفظوا كل واحد عشرة من الأحاديث المخلوطة فلما قعد البخاري للدرس قام أولهم فسأله: ما تقول في حديث كذا وسرد عليه أحد الأحاديث المخلوطة فقال: لا أعرفه فسأله عن الثاني والثالث إلى العاشر وهو يقول: لا أعرفه

بقلم: علي الطنطاوي
1255