قصور العقول عن إدراك مسألة القدر

قصور العقول عن إدراك مسألة القدر | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

249 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأٌداره؛ فالله خلق عقل الإنسان، وجعله كالوعاء، يحوي به، وجعل الأوعية مختلفة، لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء، فإن منها ما لا يصلح لها، ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر، وما زاد فاض.

وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله، وطلبه أن يحوي كل شيء به، وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني، لو سكبت عليه، طوته وضاع فيها وتحيّر.

ومما يدخل في ذلك: مسألة القدر، وهي مسألة لا يقدر العقل على الإحاطة بها، حتى لو عرضت عليه من أولها إلى آخرها حكمةً وعلةً، حتى يجعل الله له عقلا يختلف عن عقله الذي هو عليه؛ فكما أنه لا يمكنه عد الرمل والنجوم بالحساب، ولا تأمّل شمس الظهيرة بالبصر، ولا تحسس النار بالجسد، وكذلك لا يحيط بمسألة القدر بالعقل والفكر، وقد جاء عن جعفر بن محمد، وأبي حنيفة: أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد نظرا ازداد تحيرًا

ومن دخل فيه ولو أطال التأمل والتفكر، فلن يصل إلى شيء لم يرده الله؛ لأن الله أخفاه، ولا مجال للوصول إلى شيء من ذلك إلا بالقدر الذي يأذن الله فيه؛ وقال تعالى "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" فالواجب معه التسليم والانقياد.

ومن الإيمان بالله وتعظيمه: التسليم لما أخفاه، وعدم البحث عنه؛ فإنه لا يبحث إلا عما يمكن الوقوف عليه، والله أخبر عن عدم إمكان ذلك؛ فالتوقف إيمان وتسليم بخبره، والبحث والتنقيب شك أو تكذيب به

وفي ذلك يقول ابن عمر: شيء أراد الله عز وجل ألا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم

ولذا كان غير واحد من الصحابة والتابعين يسمى القدر "سر الله"، كما روي عن علي بن أبي طالب؛ قال: سر الله فلا تَكَلّفه.. ونحوه جاء عن طاوس ويحيى بن معاذ وروي مرفوعا ولا يصح؛ من حديث ابن عمر وأنس وعائشة وهكذا سماه غير واحد من الأئمة كالآجري، وابن عبد البر وغيرهما.

وكثير ممن يعجز عقله عن تأمل المسائل، ويتحيّر عن فهمها لا يبيئ الظن بعقله، وإنما يتهم المسألة بعدم انضباطها فيجحدها، أو يخرج بنتيجة خاطئة ليخرج من ضعف العقل واتهامه إلى الاغترار به.

وأما أهل الإيمان ورجاحة العقل، فيعرفون نقص العقل وكمال النقل؛ فيتوقفون عند ما ثبت به النص، وعجز عنه العقل، ويسلمون إيمانا بربهم وتسليما له.

والتسليم والتوقف هو أمر الله لعباده في المسائل التي لا يدركونها، ولا يمكنهم الإحاطة بها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ) وفي رواية (فليقل: آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه)

وفي الحديث أن رسول الله لم يمنعه من بحث خلق المخلوقات، ولكن منعه من بحث خلق الرب سبحانه؛ وذلك لأن المخلوقات تتشابه، وفالإيمان بخلق شيء يقويه خلق غيره من الكون، فلكل مخلوق مثال يشابهه أو يقارنه

ولكن لما كان الرب هو الخالق؛ ولا خالق سواه، فلا خالق له؛ ولهذا فقد أمره بالاستعاذة من الشيطان، وبالانتهاء عن مجرد التفكير في ذلك؛ لأن غاية العقل والإيمان بالأقيسة العقلية فقط، والله لا مثال له، ولا يشابهه شيء، ولا يتمكن العقل من إيجاد نتيجة متدرجة منتظمة لمن لا مثال له؛ لأن عقله سيتحير، وواجبه التوقف والتسليم والإيمان بالله.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #العقل #النقل
اقرأ أيضا
هل أخطأ نساخ القرآن في كتابة بعض كلماته؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أخطأ نساخ القرآن في كتابة بعض كلماته؟


قالوا: النص القرآني تعرض للتغيير والتحريف الذي طرأ عليه بسبب خطأ الرواة والنساخ واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ أفلم يتبين للذين آمنوا فقيل له: إنها أفلم ييأس الذين آمنوا الرعد: ٣١ فقال: إني أرى الكاتب كتبها وهو ناعس.. وبين يديكم رد على هذه الشبهة بقلم الدكتور منقذ السقار.

بقلم: منقذ السقار
648
أسلوب الوصاية | مرابط
فكر مقالات

أسلوب الوصاية


والوصاية ضد الشبهات التي تسبب رقة التدين مطلب شرعي سواء كان الذي يشيع هذه الشبهات زنديق علماني أو من متفقهة التغريب الذين يغرسون في الناس النظرة المادية للحياة ويهونون من تعظيمهم للنص باسم الخلاف ويشحنون الناس ضد المحتسبين والدعاة دوما بالسذاجة والتهور وضيق الأفق وقلة الوعي وأنهم يغرقون في كأس ماء ونحوها من العبارات التي يتشربها المستمع فتؤثر في نظرته لأهل العلم والدعاة بعامة ويجمدون مشاعر الغيرة والحمية باسم الرزانة والحكمة والهدوء ونحو ذلك

بقلم: إبراهيم السكران
2225
الدليل العقلي عند السلف ج2 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج2


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
322
دولة الكلام المبطلة الظالمة | مرابط
فكر مقالات

دولة الكلام المبطلة الظالمة


إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق ومزية الكلام التي ميز بها الإنسان وفضله من سائر أنواع جنسه الحيواني هو أنها التعبير عما في النفس من العلم ليتعاون الناس بإفضاء كل بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم وتحسين أعمالهم ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس وصرف الأذهان عن الحقائق

بقلم: محمد رشيد رضا
859
لماذا نصلي يا أبي | مرابط
تعزيز اليقين

لماذا نصلي يا أبي


من الأمور التي يتهاون بها كثير منا الإجابة بأسلوب مقنع عن أسئلة الأطفال الدينية خاصة في مسائل الإيمان ولبروفسور الرياضيات المسلم جيفري لانغ إجابة لطيفة عقلانية ميسرة عن سؤال: لماذا نصلي قد تناسب بعض الأطفال الذين فطروا على كثرة الأسئلة

بقلم: د خالد بن منصور الدريس
588
حديث السفينة: من وحي الواقع | مرابط
تعزيز اليقين فكر

حديث السفينة: من وحي الواقع


عندما تكون السفينة هي مسرح الأحداث.. لن يسعك أن ترى من يحاول خرقها وتقول: دعه يفعل ما يشاء هو حر في مساحته الشخصية يمكننا أن نتعايش معه.. فالمآل هنا مشترك للجميع إما أن نغرق جميعا وإما أن ننجو جميعا.. والآن دعنا نتأمل حال سفينتنا التي أوشكت على الغرق بعدما كثرت فيها الخروق حتى صار جسد السفينة كالغربال ويزداد كل يوم من يريدون خرقها بزعم أنها مساحات شخصية كما يزداد أيضا من يكتفون بالمشاهدة بحجة التعايش.

بقلم: محمود خطاب
449