تعظيم الأمر والنهي

تعظيم الأمر والنهي | مرابط

الكاتب: ابن القيم

1225 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو على ثلاث درجات:

الأول تعظيم الأمر والنهي
وأن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يُعرَّضا لتشدد غال
ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد).

هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي:

(أحدها): الترخص الذي يجفو به صاحبه عن كمال الامتثال
(والثاني): الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر والنهي.

فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.

وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه عن الحد، وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الحَقِّ} (المائدة: 77).

أنواع الغلو

والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو ذلك عمدًا.
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)

يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال: (ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد) رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال.

توهين الانقياد

وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر

وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللًا بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم يسكر.

ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا)

وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلًا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.

 


 

المصدر:

ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، 496/2

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الوقاية بالغض من البصر | مرابط
تفريغات

الوقاية بالغض من البصر


إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة!

بقلم: محمد صالح المنجد
309
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة


من مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي فضلها الله تعالى على سائر أيام العام فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء أخرجه البخاري: 2457

بقلم: محمد صالح المنجد
3419
رواية الأحاديث بالمعنى لم تدخل ضررا على الدين ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

رواية الأحاديث بالمعنى لم تدخل ضررا على الدين ج2


مقال مختصر يرد فيه الكاتب محمد أبو شهبة على بعض الشبهات والأباطيل التي أثارها محمود أبو رية حول السنة النبوية ومن ذلك زعمه أن الأحاديث رويت بالمعنى وأن هذا ربما أدخل ضررا على الدين بل وقال أن الرواية بالمعنى هى الأصل والقاعدة والرواية باللفظ هي العارض أو النادر وبالطبع يؤسس بهذا لفكرة أخرى وهي أن الأحاديث لم تسلم من التغيير والتبديل والتحريف وأنها لم تصلنا بلفظها كما نطقها النبي ويرمي في النهاية إلى توهين الانقياد والاستسلام للسنة النبوية بشكل عام

بقلم: محمد أبو شهبة
2342
أوقات الإجابة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

أوقات الإجابة


نعلم أن أوقات الإجابة هي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم وآخر ساعة بعد العصر ولا يزال البعض يسأل لماذا ندعو في هذه الأوقات ولا يستجاب لنا؟ بين يديكم مقال مختصر للإمام ابن القيم يقف فيه على أوقات الإجابة وحال المؤمن وقت الدعاء وبعض التأسيسات الهامة فيما يخص الدعاء والاستجابة من الله رب العالمين

بقلم: ابن القيم
859
التعامل مع نقص اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التعامل مع نقص اليقين


اليقين هو تلك اللحظة التي يصبح فيها ما يراه بصر رأسك حسا بنفس المستوى الذي تراه بصيرة قلبك إيمانا عيون الموقن في رأسه وقلبه تسيران جنبا إلى جنب في هذه الحياة ولا يتخلف أحدهما عن الآخر ويبصران المرئي وغير المرئي بذات الحدة البصرية: أن تعبد الله كأنك تراه ثم كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا هو الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين

بقلم: إبراهيم السكران
691
وأتوا البيوت من أبوابها | مرابط
اقتباسات وقطوف

وأتوا البيوت من أبوابها


الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن ينظر في حالة المأمور ويستعمل معه الرفق والسياسة التي بها يحصل المقصود أو بعضه. والمتعلم والمعلم ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله يحصل به مقصوده وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود.

بقلم: عبد الرحمن السعدي
287