بطون الفقراء أولى

بطون الفقراء أولى | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

991 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أدرك العلمانيون أن الهجوم المباشر على الإسلام لن يجدي نفعًا، وأنه قد يأتي بنتائج عكسية مثل إشعال حميّة المسلمين وغيرتهم الفطرية على الدين، وقد يصل بصاحبه إلى حالة من النبذ التام في المجتمع؛ ولذلك تراهم يغلّفون علمانيّتهم بشكل لا يوحي -في ظاهره- بالعداء؛ فترى بعضهم يستخدم العبارات الإسلامية للتلبيس على الناس، وبعضهم يأتيك بثوب العقلاني أو الناصح الأمين، وكذلك تراهم يستغلون بعض القضايا المجتمعية لتحقيق مقاصدهم وغاياتهم الحقيقية، وهذا المقال يقدم مثالًا للنموذج الأخير، حيث يستغل العلمانيون إشكالية الفقر والحاجة إلى تطوير التعليم والصحة = فيدخلون للناس من هذا الباب ويقولون:

  •     بطون الفقراء أولى بأموال الحج
  •     بناء المستشفيات أولى من بناء المساجد
  •     بناء مدرسة أولى من كساء الكعبة
  •     اللقمة في فم الجائع خير من بناء ألف جامع
  •     طوفوا حول الفقراء ولا تطوفوا حول الكعبة


وبالطبع اعتدنا أن نسمع مثل هذه الأقاويل في مواسم الحج أو الأعياد أو عند المساهمة في بناء مسجد للمسلمين، كأنهم يحرصون على أن تُنفق الأموال في أمور أولى وأهم نظرًا لحاجة الناس إليها.. والحقيقة أن هذه الشبهة سطحية للغاية وتنطوي على خلل كبير وتناقض واضح، وسنحاول في هذا المقال أن نفككها ونبين لكم عددًا من المحاور:

1- التناقض العلماني الواضح في التعامل مع الأموال المُهدرة
2- بعض الافتراضات المُتوَهّمة والتناقضات التي تنطوي عليها الشبهة.
3- الرأي الشرعي في المسألة

التعامل مع الأموال المُهدرة

قد ينخدع البعض بهذه الشبهة عندما تمرّ عليه للوهلة الأولى، فظاهرها الحرص على مصلحة الفقراء وحاجاتهم، ولكن عند التدقيق والتفكير، سنرى أن الأمر عجيب جدًا؛ كيف تتوجّه سهام النقد إلى جانب واحد فقط كأن الإسراف -كل الإسراف- لا يكمن إلا في أموال الحجّ والأضاحي وبناء المساجد! الحقيقة أن الأمر غاية في الاستفزاز، ويكشف عن تناقض واضح لدى صاحب الشبهة، فنفس الشخص قد يرى أموالا طائلة تُنفق فيما ليس فيه نفع ولا يعترض!.. فعلى سبيل المثال، لماذا لا نسمع هذا الكلام يوجّه إلى:

  • الأموال المُنفقة في حفلات الغناء والمراقص والملاهي؟
  • الأموال المُنفقة في مناسبات رأس السنة أو الكريسماس؟
  • الأموال المُنفقة في كرة القدم وتشييد الاستادات؟
  • الأموال المُنفقة في الكماليات التي يمكن للحياة أن تسير بدونها؟
  • الأموال المُنفقة في المصايف والسفريات الترفيهية؟
  • الأموال المُنفقة في الدخان والمسكرات؟
  • الأموال المُنفقة في أطنان الطعام المُهدر؟
  • الأموال المُنفقة في مراكز التجميل والأعراس والمآتم؟


وبحث بسيط حول الأموال المهدرة في هذه الأمور وغيرها = سيكون صادمًا بلا أدنى شك، فهناك مليارات تُهدر فيما لا قيمة له، ولكن العلماني لا يلتفت إليها ولا يعبأ بها، وإنما يوجّه ناظريه فقط إلى أموال الحج وأي أموال عمومًا تُنفق في إحياء مظاهر الإسلام وشعائره.. وهذا يدل على خبث الطويّة، فلو كانوا يسعون إلى حل واضح للمشكلة لوجّهوا عباراتهم إلى كل أشكال هدر المال السابقة، فهي أولى! ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، لأن الهدف في النهاية هو محاربة الإسلام وليس نصرة الفقراء! إنما الفقراء هنا هم وقود المعركة ليس أكثر ولا أقل..

ويكفيك أن تنظر إلى إحصائيات هدر الطعام في الوطن العربي عمومًا، وفي الخليج خصوصًا، لترى أطنان الطّعام المُهدر وتكلفته المالية، فحسب إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، فإن العرب يهدرون طعامًا في شهر رمضان أكثر بكثير من بقية الشهور خلال العام، وتأتي السعودية في المرتبة الأولى، حيث تبلغ قيمة هدر الطعام فيها ما يزيد عن 13 مليار دولار سنويًا، وقيل أن ذلك أكثر من الناتج الإجمالي لدول مثل: الصومال، جيبوتي، موريتانيا.

ويمكنك مطالعة هذه الدراسة: اضغط هنا حيث تثبت أن ما يعادل 1.3 مليار طن سنويًا من الطعام يتم إهداره، ولا يصل أبدًا إلى المستهلكين، وتأتي السعودية في المرتبة الأولى، حيث تشير الإحصائية إلى أن 78% من السعوديين يتخلصون من الطعام كل أسبوع لإفساح المجال للطعام الجديد، ووفقًا لجهاز الإحصاء، فإن نصيب الفرد من الإهدار يوميًا يصل إلى 1.5 كيلو جرام، أي ما يعادل 547.5 كيلو جرام سنويًا.

وانظر أيضًا إلى احتفالات رأس السنة في العالم العربي، لترى ملايين الدولارات التي تم إهدارها في أطنان المفرقعات والألعاب النارية والتجهيزات الخاصة بالاحتفال، فالإمارات مثلا حققت أرقاما قياسية في هذا المجال، واستخدمت ما يزيد عن 450 طائرة بدون طيّار في احتفالات عام 2022 وسجلت رقمًا قياسيًا جديدًا، كما تشير إمارة رأس الخيمة، حيث قدموا "أعلى ارتفاع لعرض ألعاب نارية بطائرات من دون طيار".. واستطاعت أن تقدم عروضًا غير مسبوقة -فعلا- في هذه المناسبة، طالع هذا التقرير

وقديمًا جهّزت أغلى شجرة كريسماس والتي بلغ طولها تقريبًا 18 مترًا.. وتجاوزت تكلفتها 40 مليون درهم! جاء في مقدمة الخبر على موقع الإمارات اليوم “يستعد فندق قصر الإمارات في أبوظبي لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية، للمرة الثانية، بإقامة شجرة احتفالات أعياد الميلاد، تُعد أغلى شجرة «كريسماس» في العالم، إذ إنها مرصعة بالمجوهرات الثمينة والأحجار الكريمة، وتقدر قيمتها بأكثر من 11 مليون دولار (نحو 40.4 مليون درهم)”

فهذه كانت نظرة سريعة وبحث بسيط لم أقصد فيه التعمق، وهو خاص بجانبين فقط؛ هدر الطعام، احتفالات رأس السنة = فما بالك إذا أردنا التعمق والسعي وراء بقية الإحصائيات في جوانب أخرى لتضييع المال؟ وما بالك إذا حاولنا أن نحصي كم المال المُهدر على مدار سنوات طويلة وعلى مستوى بلاد عديدة؟ هل تتخيل قدر المال الذي ضاع في اللاشيء؟ .. وإذا كان الأمر كذلك ونحن لا نرى العلمانيين يتدخلون فيه = فهذا، إذن، يكشف لنا عن محركات هذه الشبهة؛ إنهم -أولًا- لا يقصدون حلًا لإشكالية الفقر والتدهور الصحي أو التعليمي وهم لا يعبأون بالأمر أصلًا = فلو كان الأمر كذلك لتوجّهت سهام نقدهم إلى كل هذه الجوانب التي يُهدر فيها المال! ثم هم لا يريدون في النهاية إلا القضاء على شعائر الإسلام وأركانه ومظاهره.

افتراضات مُتوَهَّمة

إذا حاولنا تفكيك هذه الشبهة سنجد أنها تنطوي على عدد من الافتراضات والتناقضات الواضحة والتي تكشف لنا أن صاحب الشبهة أو المروّج لها لم يحاول أن يفهم ما تنطوي عليه أو تنبني عليه من أسس فاسدة -ولا عجب في ذلك، فالمهم عندهم هو الهجوم على الإسلام وشعائره فقط!- ثم قد ينخدع البعض بهذه الشبهة لأنها توحي -ظاهريًا- بالحرص على الفقراء وتوفير الخدمات للناس؛ ومشكلة الفقر عمومًا من المشكلات التي تلمس قلوب الناس سريعًا.. ولكن الحقيقة أن الشبهة في داخلها تحتوي على تناقضات وافتراضات عجيبة! وسنحاول هنا أن نبيّن ذلك

1- من الأسس الفاسدة التي تقوم عليها الشبهة -ضمنيًا- افتراض وجود التعارض بين الذهاب للحج أو العمرة وبين التصدق على الفقراء؛ والمتتبع لهذا الافتراض يجد أنه يُفضي إلى تسلسل فاسد: فالشبهة مبنية على وجود هذا التعارض، ولا تفترض أبدًا أن هناك مسلمًا يقوم بالاثنين معًا؛ إذن فحتى لو أن المسلم يتصدق على الفقراء ثم تبقى معه من المال ما يعينه على الحج = سيقولون له بطون الفقراء أولى؛ فإذا استجاب وتصدق بهذا المال كله أو ساهم به في أي شيء مما يدعون إليه، وفعل مثله بقية المسلمين = سيفضي الأمر إلى تعطيل ركن عظيم من أركان الإسلام وهو الحج أو تعطيل بناء مساجد المسلمين أو شراء الأضاحي أو غير ذلك من الأمور التي يعترضون عليها!

إذن فالشبهة في ذاتها مبنية على افتراض لا يصح، وتعارض مُتَوَهَّم لا وجود له؛ لماذا؟ ببساطة لأن الغرض الأساسي من الشبهة هو تعطيل الشعائر وليس طلب الحق = فلم يعبأ صاحبها بكل هذه التفصيلات، ولا يظنن أحد أن هؤلاء يخشون حقًا على الفقراء أو يتألمون على حالهم؛ بل العكس هو الصحيح، إنهم لا يعبأون بأي شيء سوى الانتقاص من الإسلام وتعطيل شعائره ومظاهره، وفي هذه الشبهة كان وقودهم للمعركة هم الفقراء وإشكالية الفقر! فالعلماني يستعين بكل وسيلة وكل ذريعة ممكنة لتحقيق غايته النهائية.

2- ثم.. تقوم الشبهة -في باطنها- على افتراض سطحي آخر؛ وهو أن بناء المدارس والمستشفيات مُعطل بسبب مساهمات الناس في بناء المساجد مثلا!.. والحقيقة أن المتأمل في مصارف الأموال سيجد الإسراف في جوانب أخرى كثيرة، مثل الجوانب التي سبق ذكرها. ولكن من جديد.. لأن صاحب الشبهة لا يبغي عدلًا ولا إنصافًا ولا حلًا فعليا لهذه المشكلات = فهو يعترض لمجرد الاعتراض، أو يتذرّع بأي وسيلة ممكنة للطعن في شعائر الإسلام ومحاولة وقف كل المظاهر الإسلامية مثل بناء المساجد وغيرها، ولو أراد فعلًا أن يحل المشكلة لتوجّه بكلامه إلى المليارات التي تُصرف في جوانب لا نفع لها ولا قيمة، وكان من الممكن استغلالها لنباء المستشفيات أو إطعام الفقراء!

3- ثم.. إلى افتراض ساذج آخر تنطوي عليه الشبهة؛ وهو أن مشكلة الفقر مستمرة بسبب الأموال التي ينفقها الناس في الحج.. فهل إشكالية الفقر موجودة في بلادنا فقط؟ قطعًا لا، وهي موجودة في العالم الأوروبي وفي الغرب، وليس اليوم فقط، بل هي مشكلة موجودة منذ قديم الزمان، وهناك إحصائيات صادمة عن عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، يمكنك أن تطالع هذا التقرير الذي جاء بعنوان "ملايين الأشخاص مهددون بالفقر أو التهميش المجتمعي في ألمانيا" وجاء في مقدمته “أظهرت دراسة مسحية على مستوى الاتحاد الأوروبي أن نحو خُمس سكان ألمانيا مهددون بالفقر أو التهميش. وتعتبر تلك النسبة أقل قليلا من مثيلاتها السابقة. كما انخفضت النسبة أيضا على مستوى سكان بقية دول الاتحاد الأوروبي”

وفي تقرير آخر نٌشر على يورو نيوز، بعنوان "أرقام صادمة عن نسب الفقر في الاتحاد الأوروبي"، جاء فيه “ففي سبع دول أعضاء في الإتحاد الأوروبي، هناك شخص واحد من بين كل أربعة أشخاص معرض لخطر الفقر. في المقام الأول: بلغاريا، حيث يشكل خطر الفقر الأعلى نسبة (32.8%)، تليها رومانيا (32.5%) ، واليونان (31.8 %) وإيطاليا (27.3 %) وإسبانيا (26.1 %)”

فهذه الإحصائيات وغيرها الكثير تشير إلى وجود مشكلة الفقر في جميع البلاد، وليس في البلاد المسلمة فقط؛ فهل السبب في ذلك أن الرجل الأوروبي يذهب للحج كل عام؟ أو يشتري أضحية كل عام؟ أو يساهم في بناء المساجد؟! .. هذا يكشف لك قدر السطحية والسذاجة التي تنطوي عليها الشبهة؛ فمشكلة الفقر هي مشكلة عالمية موجودة منذ قديم الزمان، فهي ليست حادثة ولا تختص ببلد دون بلد، وهي مشكلة لها أسبابها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. ولكن الطرح العلماني فيه من السطحية ما يكفي للوقوع في مثل هذه التناقضات الصارخة.. وكل ذلك يثبت أن بناء المساجد أو الذهاب للحج لا تربطه علاقة مباشرة مع إشكالية الفقر أو التدهور الصحي والتعليمي

بين الحاجات الدينية والدنيوية

نعيش اليوم في عالم استهلاكي، يلهث فيه الإنسان وراء رغبته الشرائية، ولا يتوقف الأمر عند شراء ما يلزمه أو الضروريات فقط، وإنما يتجاوز حتى الكماليات، فترى الكثير من الناس يلجأون للاستدانة لشراء أحدث هاتف ذكي! فالشراء هنا يتحول إلى الغاية التي يعيش لأجلها الإنسان، ويبذل في سبيلها الغالي والنفيس، وتتشكل أهداف الإنسان وتتكون رغباته من خلال الإعلانات والحملات الدعائية التي تسيطر على عقله بشكل كامل، وتخدعه وتشكّل داخله حاجات ليست ضرورية إطلاقا، ويمكن الاستغناء عنها بسهولة.. والغريب أننا في هذا العصر نسمع تلك الشبهة العجيبة!

تأتي في عصر الاستهلاكية وتلوم من يرغب في الحج أو يشتري الأضاحي أو يساهم في بناء المساجد؟! قد يبدو الأمر غريبًا للوهلة الأولى، ولكن عند التدقيق ترى أنه منطقي وطبيعي جدًا، فنحن في عصر تسود فيه المادية والاستهلاكية، ومن هنا ترى أن شراء سيارة أصبح أمرًا ضروريًا لا مشكلة فيه، وأن الأموال المُنفقة لاقتناء أحدث هاتف ذكي = ضرورية، فهذه الحاجات المادية الكمالية لا غنى عنها، بل هي تحولت إلى أمور ضرورية مقدمة على كل شيء تقريبًا.. بينما الدين نفسه وكل ما يتصل به من أركان ومظاهر وشعائر، مثل الحج وبناء المساجد وشراء الأضاحي = لا قيمة لها ولا تأتي في المرتبة الأولى، كأن الدين في عصرنا أصبح من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها ويمكن للحياة أن تسير بدونها، بينما الكماليات المادية = أصبحت ضرورات لا تسير الحياة بدونها..

إذن تبدلت المراتب في سلم الأولويات وفقًا لهذه الشبهة العلمانية، فالجانب المادي شاملًا الضروريات والكماليات يأتي أولًا، ورغبات الشراء تتحقق أولًا، ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي.. ولا مشكلة في ذلك، فالشره الشرائي لا ينتهي أصلًا والإعلانات ولا تتوقف والحمالات الدعائية لا حد لها = وبالتالي سنظل دائمًا في المرتبة رقم واحد أو المركز الأول من سلم الأولويات ولن يأتي ما بعدها أيًّا كان ما بعدها، سواء الدين أو غيره.

لهذا لن تجدهم -أبدًا- يقولون لمن يقتني أحدث السيارات: لا تشتر هذه السيارة؛ فبطون الفقراء أولى.
لن تجدهم -أبدًا- يقولون للشخص الذي يقتني أحدث هاتف آيفون ويقولون له: طُف على الفقراء بدلًا من طوافقك حول الهواتف الذكية
لن تجدهم -أبدًا- يقولون لمن يستدينون لشراء المنازل الضخمة والأجهزة الحديثة = بناء مدرسة خير من شراء منازل فارهة
لن تجدهم -أبدًا- يقولون لمن ينفقون أموالا طائلة في قاعات الأفراح وسُرادِقات العزاء وكل ألوان الفلكلور الصاخب = لقمة في فم جائع خير من ذلك من آلاف تُصرف لأجل مناسبة لا تستمر أكثر من ساعتين؟

بالطبع كل هذه الحاجات الدنيوية هي ضرورية وفقًا للعقيدة المادية المسيطرة اليوم، ولا يمكن أن تُطرح فكرة التخلي عنها، بينما المال الموجّه إلى الحج أو الأضاحي أو بناء المساجد لا قيمة له ولا بد أن يتوجه إلى الفقراء.. فهذه الأموال أصبحت في مرتبة الكماليات التي يجب أن تتوجه إلى ما هو أولى من ذلك.

إلى طاولة الحوار..

أما إذا عدنا إلى طاولة الحوار، وقررنا بحث المسألة وفق شريعة الرحمن، طالبين للحق مبتعدين عن الهوى = فإن المسألة فيها بعض التفصيل الذي ذكره العلماء؛ فالأصل أن الحج أفضل من الصدقة، ولكن تأتي بعض الحالات التي تجعل الصدقة مقدّمة على الحج والعمرة وأفضل منهما، فمثلا الصدقة على المحاويج أفضل من الحج إن كان نافلة، يعني هذا المسلم قد سبق له الحج وأراد أن يكرره، أي يحج مرة أخرى، فهذا هو حج النافلة، فلو وضع هذا أمام التصدق على المحاويج الذين لا يجدون قوت يومهم مثلًا أو غير ذلك من المواضع الضرورية = فهنا يكون التصدق أولى وأفضل.

ورد عن الثوري أن رجلًا سأله فقال: الحج أفضل بعد الفريضة أم الصدقة؟ فقال: أخبرني أبو مسكين عن إبراهيم أنه قال: إذا حج حججًا فالصدقة. وكان الحسن يقول: إذا حج حجة

وقال ابن تيمية، رحمه الله: والحج على الوجه المشروع: أفضل من الصدقة التي ليست واجبة. وأما إن كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعًا، فالحج أفضل، لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات ويصلي الصلوات الخمس، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد" انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5 / 382).

والمسألة فيها تفصيل وأقوال للعلماء وديننا لم يهمل أبدًا قضية الفقر وإشكالية الفقراء، والمسلم يعلم جيدًا أنه مأمور بالجمع بين الطاعات قدر الاستطاعة، والناس مختلفون في قدراتهم، ثم نحن نعلم أن هناك سُلّم للأولويات، ولكن في بعض الحالات الضرورية يُقدم شيء على شيء آخر للمصلحة.

ولكن الغرض هنا أن نضع أمام القارئ الفارق الكبير بين النموذجين؛ فلو كان الأمر مطروحًا بهذه الكيفية التي يظهر فيها الاجتهاد ومحاولة الوصول إلى الأصلح = لاحترمناه، ولكن هذا الطرح العلماني يعج بالتناقضات والأخطاء، والبون شاسع بين هذا الطرح وبين ما يطرحه العلمانيون؛ فالفريق الأول -علماء المسلمين- يجتهد ويحاول أن يقف على الأصلح، والفريق الثاني مفسد لا همّ له إلا تعطيل شرائع الإسلام كلّها أو جلّها، فيستأسدون في مواضع بناء المساجد أو الحج، وينكسرون في مواضع الاحتفالات التي لا فائدة ولا قيمة لها.. وهذا التناقض الكبير يثبت لنا غايتهم والمحرك الرئيسي لأقوالهم ودعواتهم الباطلة.

خاتمة: زخرف القول

قال الشيخ عبد العزيز الطريفي: لو عُرض الشر على العقول بلا تزيين لم يقبله أحد، ولكن يزخرفونه ليمر عليها فتتقبله (شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا".. وينطبق هذا على الشُّبهات التي نتعامل معها؛ فالشَُبهة قد تأتيك تارة مكسُوَّة بعبارات إسلامية ظاهرها الخوف على الإسلام والحفاظ على الشريعة واستمداد النور من الوحي وما أبعدها عنه، وقد تأتيك مرة لتلعب على أوتار المشاعر فتقصّ عليك من أنباء الفقراء وأحوالهم لتشعل حماسك وحميّتك ثم تزجّ بك في الاتجاه الخاطئ، وقد تأتيك مرة أخرى زاعمة أنها تخاطب العقل وتحترمه وهي بعيدة عنه بعد السماء عن الأرض.. وهكذا دواليك، نادرًا ما تكشف لك الشّبهة عن عُوارها، ولكنها ستتزيّن لك وتُزخرف حتى تصل إلى قلبك؛ ثم إذا فسد القلب فسد كل شيء بعده..

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #بطون-الفقراء
اقرأ أيضا
حجية الظن في ثبوت الأخبار | مرابط
أبحاث

حجية الظن في ثبوت الأخبار


فبعض الناس يتعامل مع اليقين-القطع-العلم كدرجة واحدة كأنه الدرجة المائة في النسبة المئوية فإذا وصفنا نوعا معينا من الأدلة باليقيني أو أنه يفيد العلم فهو الدرجة ١٠٠ ويلزم أن كل ما دونه لا يفيد العلم ولا اليقين ولو كان درجة ٩٩ والحقيقة أن اليقين يتفاوت وليس على درجة واحدة فتحقق أعلى درجات اليقين في نوع من الأدلة لا يعني بالضرورة أن كل ما دونه من الأنواع قد خرج من دائرة إفادة العلم واليقين

بقلم: معتز عبد الرحمن
274
كذب الفلاسفة | مرابط
مناقشات

كذب الفلاسفة


ولا بد لنا أولا قبل المضي في الحديث أن نبرر هذا الاهتمام بالفلاسفة: لماذا الحديث عن كذب الفلاسفة؟ ولماذا هذا التدقيق والتنقيب عن الخطايا الشخصية لدى هذا الصنف من الناس؟ الجواب يكمن في حقيقة خطرة وجوهرية وهي أن اللغة الفلسفية والخطابات التجريدية توهم بوجودها المستقل عن الذوات التي شيدتها فهي تشعر الدارس لها بنقاء أسطوري وأصالة مزعومة وتكرس قدرا واسعا من اشتغالها التأويلي للبرهنة على عموميتها النظرية وعمق موضوعيتها المعرفية

بقلم: عبد الله الوهيبي
322
هل تعلم النبي القرآن من بحيرا وورقة بن نوفل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات تعزيز اليقين

هل تعلم النبي القرآن من بحيرا وورقة بن نوفل


من أبرز الأباطيل والشبهات التي أثارها أعداء الدين قديما وحديثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم هذا القرآن من بحيرا الراهب وورقة بن نوفل وأخذ عنهما هذا العلم وبثه بين العرب أي أن القرآن ليس وحيا من عند الله وإنما يندرج تحت علم أهل الكتاب والرد على هذا الزعم بسيط وميسور جدا فما حفظه التاريخ وما وصلنا من أخبار ومن قرائن الأحوال يثبت عكس ذلك وهو ما يوضحه الكاتب منقذ السقار في هذا المقال

بقلم: د منقذ محمود السقار
8344
الهجرة إلى الله ورسوله | مرابط
مقالات

الهجرة إلى الله ورسوله


لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه أحدث له ذلك نظرأ فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله وينفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد

بقلم: ابن القيم
655
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
402
الخوف من البلاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الخوف من البلاء


والحقيقة أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه فإنه سوف يجني أولى ثمرات إيمانه في الدنيا بتذوق طعم الحياة بنكهة مختلفة لأن نظرته للأشياء من حوله ستكون أكثر شمولا للزمان والمكان والأحوال فينشأ عن ذلك طمأنينة النفس وسكينة القلب وهدأة البال فلا يجزع عند البلاء مع الجازعين ولا يتسخط عند المصيبة مع المتسخطين لأنه موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه

بقلم: د. جمال الباشا
371