المجتمع المشهدي والاستهلاك

المجتمع المشهدي والاستهلاك | مرابط

الكاتب: محمد علي فرح

786 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن كل تطور حدث في شكل المجتمع المعاصر مرتبط إلى حد بعيد جدا بما قبله، وتستطيع القول: إن كل أطروحة خاصة بنقد المجتمع -غالبا- مكملة لما قبلها من أطروحات؛ لذلك علينا الرجوع إلى ما ناقشه «أدورنو» واماركوزه: أن كل ما يرتبط بعلاقة الإنسان بنفسه وبما حوله قامت المنظومة بتشيئه.

 

وبتحويل العلاقات الإنسانية إلى أشياء، فأصبح من الممكن للمنظومة عرض هذه الأشياء كسلع، وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة معدل الاستهلاك لهذه السلع، لا من أجل ما تحويه هذه السلع من منافع، بل من أجل الاستعراض بغية إثبات الوجود، والحصول على الاهتمام المرجو من المجتمع.

 

فما قامت به المنظومة هو عرض السلع بصورة تكون أشد ارتباطا بعلاقات الأفراد ببعضهم، أكثر من ارتباطها بالنفع المتحقق من السلع، لا لشيء إلا لفرض هيمنة السلعة بمفهومها  "الفتشي" على الإنسان، فلا يستطيع أن يتصور علاقته بمن حوله إلا من خلال ما يملكه، فيتحوّل الأمر من امتلاك الإنسان للشيء إلى امتلاك الشيء للإنسان.

 

فبالفعل أصبح مالك السيارة مملوكا لها، وصاحب البدلة الفخمة مملوكا لها، وصاحب الشقة في الحي الراقي، والهاتف المتطور..، إلخ مملوكا لأشيائه لا مالكا لها؛ لأنه -وببساطة شديدة- لن يكون لوجوده معنى بغير وجود أشيائه.

 

وكما رأينا أن السلع تطورت لتسيطر على كل ما في الحياة، فالفكر والثقافة والموسيقى والرياضة، وحتى الواعظين الدينيين، تحولوا إلى أشياء يتم عرضها كالسلع تماما، تستطيع أن تقوم باستإجارها، أو حتى أن تتملكها، وتقوم بتزيينها وبيعها، وهذا لا يخفى، فالصوت الجميل مثلا له سعر تحدده مواصفات المغني، من وسامة، وشكل للجسم، وأداء معين، والخطبة الدينية لها سعر هي الأخرى يحدده درجة تأثير الخطيب وأداؤه، ولاعب الكرة..، إلخ، حتى الصحافة تنشر أخبارها على حسب ما يرضي ذوق القراء، ﻷنه كلما زاد عددهم؛ زاد عدد الشركات المنتجة التي تقوم بدفع أموال للجريدة أو المجلة لنشر إعلاناتها، فتحوّلت الأخبار أو الأفكار المعروضة إلى شيء في شكل سلعة، بل حتى القارئ تحوّل بالنسبة للجريدة إلى شيء كُلّما زاد عدده زاد ربح الجريدة، فلا الإنسان يُشكل للجريدة عقل قارئ متأمل، ولا الخبر يشكل للقارئ عمقًا معرفيًا.

 

حتى الجغرافية تقوم الشركات السياحية بتسليعها، فهذه البلد -مصر- فيها معابد وبحار ونهر النيل ومسارح، فأما سعر مشاهدة المعبد كذا، وسعر رحلة في النيل كذا، فتبيع الشركة السياحيّة شيئًا والزائر يشتري.

 

وبما أن كل شيء في العالم قد تشيًأ؛ فإن ديبور يقول عن رؤيته للمجتمع المشهدي/الاستعراضي: إنها رؤية عن العالم قد تعرض للتشيؤ، يرى ديبور أن المجتمع الذي يقوم على الاستهلاك والاستعراض ليس وليدًا للصدفة، بل إنه مشهدي في الأساس، أو إنه التطور الذي لا بد منه لهذا المجتمع.

 

ويرى أن الارتباط بين المشهد والسلعة ارتباط عميق، فالمشهد يستعبد البشر الأحياء لصالحه، كما يستعبدهم النظام الاقتصادي، فالمشهد ما هو إلا الانعكاس الحقيقي لإنتاج الأشياء.

 


 

المصدر:

محمد علي فرح، صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع، ص180

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاستهلاكية #التشيؤ
اقرأ أيضا
مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات مناقشات

مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1224
معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة | مرابط
اقتباسات وقطوف

معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة


مقتطف من كتاب الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية يدور حول معارضة الوحي بالعقل ويقف بنا أمام القياس العقلي المركب في قول إبليس أنا خير منه والفاضل لا يسجد للمفضول والاحتجاج بأنه مخلوق من نار بينما آدم مخلوق من طين أي من خلق من نار خير ممن خلق من طين

بقلم: ابن القيم
806
سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام


العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه لأنه دائما عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل ألا ترى أن أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء ولو كان هذا العلم صحيحا كاملا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتما

بقلم: محمد رشيد رضا
587
الخوف من الله حقيقته وفضله ج2 | مرابط
تفريغات

الخوف من الله حقيقته وفضله ج2


من العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن ينقل عن بعض المتصوفة سواء كانوا نساء أو رجالا أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك إلى آخر الخرافة المزعومة لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى بل -كما ذكرنا- كلما كان مقربا إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يحمل الناس أن يعيشوا هكذا ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه ولا -أيضا- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم ف...

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
646
الحكمة من تأخير تحريم الربا | مرابط
مقالات

الحكمة من تأخير تحريم الربا


أخر الله نزول تحريم الربا لتعلق الناس به وشدة تمسكهم بأرزاقهم فأجل نزول التحريم حتى يقوى إيمانهم ليسهل عليهم الترك فقد روى ابن جرير من حديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: آخر ما نزل من القرآن آية الربا وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها فدعوا الربا والريبة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
606
حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2 | مرابط
تفريغات

حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2


بين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للدكتور راغب السرجاني يدور حول الاجتياح المغولي للعراق والذي يعتبر من أبرز الأحداث في تاريخنا الإسلامي حيث يحمل الكثير من المآسي والعبر والدروس التي يجب أن نتعلمها فيما يخص تعامل المسلمين مع الأعداء

بقلم: راغب السرجاني
673