الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1379 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأزمة الثانية: التناقضات المتزاحمة:

ركبت العقلية البشرية على التسليم بالمبادئ الفطرية التي تتنافى بشكل قاطع مع الاضطراب والقلق، فالعقل البشري بطبعه يميل إلى الاتساق ويشعر بالارتياح إليه وبالسرور به.
 
ولكنه يفقد ذلك كله حين يكون متابعا للمنتج الليبرالي في السعودية, فنتيجة لانعدام الرؤية الناضجة في قيم الليبرالية، وضبابية الموقف من الأسس الفكرية، فقد وقعت الليبرالية في ممارسات تناقضية عديدة.. تألم منها بعض إتباع التيار الليبرالي نفسه، وكتب فيها مقطوعات رثائية عديدة، ومنها مقطوعة"المكارثيون السعوديون الجدد" يرثي فيها لحال زملائه ويندد فيها بالأوضاع المزرية التي وصلوا إليها من التناقض.
 
1- فبينما ينادي التيار الليبرالي السعودي صباح مساء بالحرية الفردية، ويطالب بفتح الباب لحرية الرأي، ويؤكد على أنها الأساس الذي يقوم عليه التطور والارتقاء والوصول إلى النضج المعرفي، فلا يكاد ينتهي من هذا كله إلا وتتهاوى هذه الدعوة في أول محطة من المواجهة، وتجده يتخلى بكل سهولة عما ينادي به، ويمارس الإقصاء ومحاربة الرأي المخالف له بكل صرامة، فكم اشتكى المثقفون من الإقصاء الليبرالي، وكم منعت أصوات جراء الحرب الضارية التي أقمها التيار الليبرالي على الحرية الفكرية.
 
ولم يكتف التيار الليبرالي بمحاربة الحرية بنفسه، بل انتقل إلى مرحلة أخرى، وهي التحريض على المنافذ الإعلامية التي تتيح للرأي المخالف رؤية النور، والدعوة إلى إغلاقها والتضييق عليها ولو بأسلوب متلوي متعسف، وأقرب مثال على ذلك: ما مارسه التيار الليبرالي من تحريض شديد على قتاة المجد لما ظهر من خلالها رأي يخالف التوجه الليبرالي.
 
ومع ذلك كله فالمتابع لا يجد لأكثر التيار الليبرالي كلاما عن انتهاك الحرية السياسية وقمع الأصوات التي تنادي بمحاربة الاستبداد وتداول السلطة، وتسعى إلى تحقيق العدالة، ولا نجد لهم كلاما عمن سلبت منهم حرياتهم بسبب انتقاده للاستبداد والتفرد بالسلطة، كل هذه الموضوعات يسكت عنها التيار الليبرالي، وكأنها لا علاقة لها بالحرية الفردية !!
 
ويبدو أن التناقض بين القيم الليبرالية وبين الممارسات اليومية للتيار الليبرالي بدا يشكل كابوسا مزعجا يلاحقه في كل زمان ويظهر له في كل مكان.
 
2- ويلاحظ المراقب أن التيار الليبرالي جعل من أبجدياته اليومية الدعوة إلى محاربة التطرف والتشدد والإرهاب، وكرر على أسماع الناس بأن هذه المحاربة هي التي تؤدي إلى الاعتدال والاستقرار.. ولكننا نجده يتناقض في مواقفه من التطرف فقد غض الطرف عن تطرف آخر بلغ من الشطط والشذوذ مبلغا كبيرا، والغريب أن هذا التطرف ظهر للناس وهو يحمل اسم الليبرالية السعودية، فقد مورست شناعات دينية تحت ظل هذا الاسم، فظهر للعيان إنكار وجود الله والاستهزاء بالنبي والتشكيك في القرآن تحت مظلة" الشبكة الليبرالية السعودية"، ولم ير المراقبون من التيار الليبرالي الحماس النقدي ولا الكتابة المكثفة ولا الدعوات المركزة لإنكار هذا التطرف مثل ما رأوه في إنكار النوع الآخر، مع أنه في النوع الثاني أوجب على الليبرالية وألزم لأنه خرج بنفس الاسم الذي يحملونه وتحت المظلة نفسها.
 
3- ويدعو التيار الليبرالي في كل محفل وعند اقتراب معارض الكتاب إلى ضرورة الانفتاح المعرفي والمجتمعي على العالم والسماح بنشر كل مؤلف من غير تضييق عليه أو تحريض، ويسعى إلى إلغاء الرقابة على المنتجات الورقية وغيرها.. ولكننا نفاجأ بأنه في بعض خطاباته يتبنى الدعوة إلى الرقابة المشددة على منتوجات التوجه الديني من الكتب والمجلات والأشرطة والمواقع والقنوات والبرامج، ويدعو ولو بطرف خفي إلى التضييق عليها، وتكثيف الرقابة والمراقبة.
 
4- ولا يكاد يهدأ أكثر التيار الليبرالي من توجيه الذم إلى المجتمع ووصفه بأنه متخلف لم يعرف التطور ولم يذق طعم التقدم، ولم يعش الارتقاء، وأنه ما زال يعيش في عصر التقييدات المكانية والزمنية، وأنه لم يخرج عن البداوة والقبيلة.. ثم نجد ذلك الذم يقف عند دائرة المجتمع فقط، ولا يصل إلى السلطة الحاكمة، بل يصل في بعض المظاهر إلى الإطراء من شأن السلطة والإعلاء من رقيها وتقدمها، مع أن السلطة جزء من المجتمع، بل هي أحد الأسباب التي أدت إلى حدوث التخلف في المجتمع وإلى استمراره.
 
5- ويشن عدد من التيار الليبرالي حملة لا هواة فيها على التصنيف الفكري للمجتمع ويعلن الإنكار القاطع لتقسيم المجتمع إلى تيارات معرفية متدافعة، ويصور ذلك على أنه أحد النواقض الكبرى لمفهوم الوطن الواحد، ولكن المراقب للمنتج الليبرالي يجد حضورا مكثفا للتصنيف والتقسيم، فهو من أكثر التيارات التي تقسم المجتمع إلى متشدد ومعتدل ومتطور ومتحجر ومتفتح ومنغلق وعقل أحادي وعقل تعددي وغيرها من التصنيفات التي لا يكاد تخلو منها الصحافة الليبرالية.
 
6- وقد اعتبر عدد من التيار الليبرالي الاختلاف الثقافي والمجتمعي والواقعي أحد الموانع التي تمنعنا من الاعتماد على التراث الإسلامي، فهو نشأ في بيئة مختلفة عن بيئتنا وفي نطاق فكري مختلف عن فكرنا، وبالتالي فلا داعي لاجتراره واستهلاك الوقت في إحيائه – كما يقولون -، ولكننا في المقابل نسمع صباح مساء دعوات مؤكدة على ضرورة الاقتراض من التراث الغربي وفتح الأبواب أمام الانغماس في أمواجه المتلاطمة، مع أنه هو الآخر مختلف عنا في كل الجوانب التي ذكرها التيار الليبرالي في تحييد التراث الإسلام!
 
ومن جهة أخرى يشهد المتابع للمنتج الليبرالي حضورا مكثفا للدعوة إلى الانفتاح على التراث الإنساني وضرورة الاستفادة مما فيه من قيم ومبادئ – ولا شك أن هذه دعوة صائبة في أصلها – ولكننا في المقابل نلمس تقليلا وتحقيرا من التراث الإسلامي وإعراضا ظاهرا عنه، ومحاولة لصرف الأنظار عنه، وكأنه ليس تراثا إنسانيا أيضا، وكأنه لم يقدم أي معنى من معاني الإنسانية.
 
7- ويستمر التيار الليبرالي في تناقضه، وذلك أنه أكثير من يتهم الآخرين بأنهم يزعمون لأنفسهم امتلاك الحقيقة ويصف من يفعل ذلك بالتحجر وضيف الأفق والخروج عن الواقع ولكن المراقب الواعي إذا تجول في المنتج الليبرالي يجد أنه من أشد التيارات التي تسلك مسلك من يرى أن الحقيقة لا تخرج عما يقول، ومن يرى أنه لا أحد يمتلك الحقيقة غيره، ويتجلى ذلك في عبارات القطع والجزم والتجهيل والتخطئة الجازمة والمؤكدة لأقوال من يخالف توجهاته، فإذا كان هذا الأسلوب لا يمثل امتلاك الحقيقة فما الذي يمثلها إذن؟!
 
8- ويقلل بعض التيار الليبرالي من أهمية الدعوة إلى المحافظة على الخصوصية الفكرية والمجتمعية، ويهون من أهمية الحفاظ على الهوية المعرفية ويستهجن فكرة الغزو الفكري ويعدها خيالا مصطنعا، بحجة أنا نعيش في عصر العولمة الذي أضحى العالم فيه قرية واحدة، ولكننا في المقابل نجده يقول إن الليبرالية السعودية لها خصوصيتها التي لا يشاركها فيها حتى الدول العربية، فهي ليبرالية ليس كمثلها ليبرالية، لأنها تتمتع بخصوصية وهوية صارمة لا تقبل الاختلاط بغيرها !
 
إن هذه الممارسات المتناقضة وغيرها مما لاحظها المراقبون استشرت في جسد الخطاب الليبرالي حتى وصلت على درجة الازدحام، وهي تؤكد مدى المعاناة المعرفية التي يعاني منها، وتشير إلى مقدار الأزمة المعرفية المخيمة عليه وتقيس كمية القلق الثقافي الذي تحدثه في الساحة الفكرية، وتظهر الكثافة الضبابية التي خيمت على أسس الليبرالية.
 
وإذا رجعنا إلى الاستقراء التاريخي لنستجلي الدلالات التي تستخلص من كثرة التناقضات وتزاحمها في مشروع ما فإن نجدها تدل إما على تفتت أصول المشروع وهزالتها وإما على ضعف تصور صاحب المشروع لها وإما على ضعف إيمانه بها وقلة تصديقه بمضمونها وفائدتها، وبالتالي يخالفها في ممارساته اليومية، وكل واحدة من هذه كفيلة بالتسبب في إفلاس المشروع وتعثره.
 
والتيار الليبرالي بهذه التناقضات يكون فاقدا للمشروعية المعرفية وخاليا من مؤهلات النجاح الفكري ؛ لأنه مفتقر إلى أوليات المنهجية المنتجة وأبجديات الأسس الأصلية التي تقوم عليها المشاريع المقنعة لأصحاب العقول المتسائلة.
 
ومن المستغرب حقا أن التيار الليبرالي ما زال مصرا على المضيء قدما في مزاولة تلك التناقضات، مع كثرة الأصوات الثقافية المنادية بالإنكار والتشنيع على صنيعهم والمحذرة من الآثار الفكرية والثقافية التي تحدثها تلك المزاولات في الساحة، ولكنه ألقى بكل الأصوات وراء ظهره، وكأنه يقول: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1504
التوحيد معجزة الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد معجزة الإسلام


أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البهيمية- فلا تجيزه الشريعة الإسلامية. والدين الإسلامي هو الدين الذي يعمم النظام بين الورى ويقمع النفس عن الهوى ويحرم إراقة الدماء والقسوة في معاملة الحيوان والأرقاء ويوصي بالإنسانية ويحض على الخيرات والأخوة.

بقلم: د. عبد المعطي أمين
349
تحريف المراد من أمية النبي | مرابط
أباطيل وشبهات

تحريف المراد من أمية النبي


من الشبهات التي يروجها البعض حول أمية الرسول أن أصل هذه التسمية ترجع إلى نسبته إلى مكة وهي أم القرى أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقرأ ويكتب بثلاث وسبعين لسانا وإليكم الرد على هذه الشبهة في مقال موجز.

بقلم: قاسم اكحيلات
280
بعيدا عن الضجيج! | مرابط
فكر

بعيدا عن الضجيج!


الناس تتغير كل يوم بقطع النظر للأفضل أو الأسوأ في زحام الحياة ومتطلباتها يحتاج المرء إلى وقت للابتعاد عن الضجيج لتقييم خطواته وآرائه وبذا يتعمق أكثر.

بقلم: يوسف سمرين
297
البركة في العلم | مرابط
مقالات

البركة في العلم


بعض العلماء لم يعرف إلا بمتن أو منظومة كابن آجروم والبيقوني أما الآجرومية فما من طالب يريد النحو إلا كانت بوابته وقل مثل ذلك في البيقونية في مصطلح الحديث. وإذا تأملت في حال بعض العلماء وجدت أن غيرهم أعلم منهم بكثير وأوسع دائرة وإحاطة لكن أثر هؤلاء العلماء أعمق من غيرهم ونفعهم أعظم ولازالت الأمة تتفيأ ظلال علومهم.. والسر في ذلك بركة العلم

بقلم: طلال الحسان
369
حجية الظن في ثبوت الأخبار | مرابط
أبحاث

حجية الظن في ثبوت الأخبار


فبعض الناس يتعامل مع اليقين-القطع-العلم كدرجة واحدة كأنه الدرجة المائة في النسبة المئوية فإذا وصفنا نوعا معينا من الأدلة باليقيني أو أنه يفيد العلم فهو الدرجة ١٠٠ ويلزم أن كل ما دونه لا يفيد العلم ولا اليقين ولو كان درجة ٩٩ والحقيقة أن اليقين يتفاوت وليس على درجة واحدة فتحقق أعلى درجات اليقين في نوع من الأدلة لا يعني بالضرورة أن كل ما دونه من الأنواع قد خرج من دائرة إفادة العلم واليقين

بقلم: معتز عبد الرحمن
271