يحدثك القرآن عن ظاهرة المصائب والأضرار التي تصيب الإنسان في حياته الشخصية، وبالرغم من أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، كالأدوية للشفاء من المرض، والتماس الرزق لرفع الفقر، إلا أن القرآن يكثف دائرة الضوء على أمرٍ آخر أهم وهو أن يرتبط الفؤاد بالله سبحانه وتعالى وهو يصارع هذه البلاءات، تأمل كيف يصوغ القرآن هذا المعنى، يقول الله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ويقول ربنا في موضعٍ آخر مشابه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
لعلك لمحت معنى آخر، وهو أن الآيتين كليهما لم يتحدثا فقط عن أن كاشف الضر هو الله، بل المدهش أنهما أشارتا كذلك إلى أن من مسّك بهذا الضر هو الله سبحانه أيضًا! فحين يتعمق المؤمن في أسرار هذه الآيات فيمتلئ قلبه باليقين بأن من مسّه بالفقر أو المرض هو الله، وأن من سيرفع هذا الضر، فيغنيه ويعافيه هو الله أيضًا، فصار مبتدأ الأمر ومنتهاه من الله وإلى الله، فماذا بقي في القلب لغير الله!
الله وحده –جل جلاله- هو الذي أوقعه، والله وحده –جل جلاله- هو الذي سيرفعه! هكذا يتبحر المؤمن في حقائق العلم بالله والإيمان به وعمارة النفوس بمهابته سبحانه.
ثم ينتقل القرآن إلى دائرة أوسع من دائرة (الفرد) وهمومه الشخصية، إلى دائرة (المجتمع) وقضايا الشأن العام وما تكابده من أزمات، ماذا يريد الله جلّ وعلا بتقدير هذه الأزمات المجتمعية؟ قطعًا هناك حكمة إلهية في تقدير هذه المصائب المجتمعية، فما هي يا ترى؟
إنها ليست شيئًا آخر غير تلك الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن والتي رأيناها تسري في شرايين الشواهد والنماذج السابقة، بكل وضوح ومباشرة يكشف الله سبحانه عن حكمته في تقدير هذه الأزمات المجتمعية فيقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، ويحدد ربنا في موضع آخر مشابه ذات الخلفية: (ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)
وتضيف آيةٌ أخرى مقامًا إيمانيًا بديعًا مشابهًا للتضرع وهو "الاستكانة لله" يقول الله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
هذه التغيرات التي تطرأ على الفرد والمجتمع بشكل عام يريد بها الله أن نعود إليه كما يقول الله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
هذا هو الدرس الأساسي في ظاهرة المصائب الجالبة للهموم الفردية والمجتمعية، كالفقر والمرض والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، يريد الله جل وعلا أن تكون جسرًا إليه سبحانه، يريد الله بها أن توقظ قلوبنا فتستكين لله، وتتضرع له سبحانه، وتتعلق به جل وعلا، قارن هذا بنمط تعاملنا مع هذه الظواهر يستبِن لك بعدنا عن الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن.