الإنسان ذئب لأخيه الإنسان

الإنسان ذئب لأخيه الإنسان | مرابط

الكاتب: د. سامي عامري

1147 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أدرك كثير من المعاصرين لداروين عند إصداره في كتابه (في أصل الأنواع) خطورة لوازم نظريته على الإنسان، رغم أن داروين لم يتحدث في أمر تطور الإنسان إلا لاحقا في كتاب (في أصل الإنسان) ومن هؤلاء آدم سدجويك -المشرف السابق على داروين في العلوم الطبيعية في جامعة كمبردج- فقد كتب إلى داروين رسالة سنة 1859، بعد فترة قصيرة من نشر كتاب (في أصل الأنواع)، قال فيها: "فقرات في كتابك.. صدمت كثيرا ذوقي الأخلاقي.. هناك جزء أخلاقي أو ميتافيزيقي في الطبيعة بالإضافة إلى الجزء الفيزيائي. من ينكر ذلك واقع في قاع مستنقع الحماقة.. في رأيي، إن البشرية ستعاني من ضرر قد يُثخن فيها، وسيهوى الجنس البشري إلى درجة دنيا متدهورة أدنى من أي درك بلغة الإنسان في تاريخه المكتوب"

 

عندما ينزل الإنسان إلى مرتبة الحيوان تحكمه لغة الغاب، وشريعة الافتراس والانتهاس؛ يصبح العدل دالا بلا مدلول؛ لافتقاده أرضية تُبنى عليها مفاهيم الإنسان، والحق، والواجب.

 

ولقد تمثل هتلر لاحقا روح الداروينية في قوله في كتابه كفاحي، عند حديثه عن رؤيته الكونية التي (لا تؤمن بأي حال من الأحوال بالمساواة بين الأعراق.. ومن خلال هذه المعرفة تشعر أنها مضطرة -وفقا للإرادة الأبدية التي تحكم هذا الكون- لتعزيز انتصار الأفضل، والأقوى، وللمطالبة بخضوع الأسوأ والأضعف. وبالتالي هي تعتنق بصورة مبدئية القانون الارستقراطي للطبيعة، وتؤمن لصحة انطباق هذا القانون على الجميع. وهي لا تعترف فقط بالقيمة المختلفة للأعراق، وإنما تؤمن أيضًا باختلاف قيمة الأفراد)

 

لما واجه أحد أصحاب داوكنز من التطوريين داوكنز بحقيقة مآلات الداروينية قائلًا: هناك مجموعة كبيرة من الناس غير مرتاحة لقبول التطور؛ ﻷنه يؤدي إلى ما يعتبرونه فراغا أخلاقيا، حيث تفقد أفضل رؤاهم الأخلاقية كل أساس في عالم الطبيعة!

أجابه داوكنز بقوله: كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الأمر شديد، وعلينا مواجهة ذلك.

 

وقد كان جون لوك -أحد أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في التاريخ الأوروبي- مدركا منذ قرون مآلات الإلحاد إن التزمه صاحبه كامل الالتزام؛ ﻷنه يطلق في الإنسان ذئبيَّته الشرسة، دون رادع؛ فكتب في رسالته الشهيرة "رسالة حول التسامح": الوعود والعهود والأيمان، التي هي روابط المجتمع البشري، لا يمكن أن تكون ملزمة للملحد. التلخص من الإيمان بالله، حتى لو كان في عالم الفكر وحده، يذيب كل شيء"

 

إن الفعل الذي يفعله الإنسان -مهما كان قبحه- لا يخرج في كليّته -في التصور الإلحادي- عن أن يكون حركة فيزيائية لا علاقة لها بالحسن والقبح؛ فقتل إنسان لآخر لا يخرج عن إدخال سكين بسرعة في بطن آخر، أو إطلاق رصاصة لتستقر في دماغ ثان.. أفعال لا معنى لإدانتها، كما أننا لا نُدين الأسد إذا أمسك بغزالة، وأنشب أنيابه في عنقها لشل حركتها، ثم انتهشها، ولا ندين القطة إذا اقتنصت فأرًا لغدائها.. لا فارق البتة.. إذا لم يكن الأسد والقطة ظالمين آثمين؛ فلم يُدان الإنسان في عالم بلا أخلاق، باعتراف الملاحدة؟!

 

في عالم إلحادي، ليست الأنانية القصوى رذيلة؛ إذ أننا لن نجد سببًا ماديًا لإدانة الرغبة في احتكار أسباب المتعة.. في عالم مظلم بلا خير ولا شرّ، لا يُمكن أن نجد أساسًا وجوديًا لإدانة من يروي عطشه لسعادته الشخصية على حساب غيره؛ إذ إن سعادة الآخرين أمر غير جدير بالاعتبار.. ولذلك صرّح داوكنز أنه من العسير -إلحاديا- أن تجد أساسًا لإدانة هتلر! ولما قال له الصحفي: ضمن نظراتك الإلحادية، لا أساس لإدانة الافتصاب أنه خطيئة، فإن إنكار هذا الفعل موقف اعتباطي، لم يجد داوكنز بدًا من موافقته.

 

إنه عالم متعاطف مع نيتشه في استخفافه بأخلاق الرحمة وإغاثة المكروثين؛ فكل مبادئ الأخلاق أكاذيب من صنع الخيال، وكل تحليلاته النفسية محض تزوير، وكل أشكال المنطق التي أقحمها الناس في مملكة الأكاذيب هذه لا تعدو أن تكون سفسطات.

 

الحقيقة الوحيدة هي الحياة الفعلية، وهي منافرة بطبعها للأخلاق المتسلطة عليها من الخارج، وللمثل العليا التي تدعونا إلى الإحسان إلى الضعفاء وإكرام المحتاجين. إن هذه المثل تفقر الحياة الحقيقة وتكاد تسلبها حيويّتها.

 

وتسير هذه الأخلاق المثالية بذلك عكس الانتخاب الطبيعي الذي لا يُبقي على الأرض غير ذاك الذي فاز عن جدارة بحق البقاء في معركة الحياة الملحمية؛ فلا تستبقي الحياة إلا ذاك القادر على التكيف والتطور، وأما العاجز والقاصر فمصيره الزوال. إن الشفقة بالضُّعفاء أشدّ القيم منافرة لطبيعة الغابة. "إن الشفقة فضيلة المومس" كما هي عبارة نيتشه.

 

كما ترفض الطبيعة منطق الأخلاق في المساواة بين الكائنات -في أي صورة من صور المساواة- ﻷن الطبيعة قائمة على التمييز والتفرقة وترتيب الأحياء رأسيًا لا أفقيا في باب القوة؛ فهم بين أعلى وأدنى منه، وأضعف الجميع..

 

كل ذلك حافز حيوي قوي مُتَمَاهٍ مع الوجود الطبيعي لإنكار أخلاق المثل، خاصة الرحمة والعفو والتكافل ونجدة المحتاج. فهل هناك داع متجاوز للطبيعة يدعو الملحد إلى أن يصنع أخلاقا لا طبيعية أو فوق طبيعية؟

 

الملحد المستسلم لفطرته؛ ذئب لأخيه الإنسان، والمعارض لفطرته الغابيّة، فاقد لأساس وجودي يقيم عليه أخلاق الفضيلة

 

في عالم الإلحاد الصادق مع أصوله؛ طلب البقاء هو القيمة الوحيدة، والصراع هو الآليّة، والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة.

 


 

المصدر:

د. سامي عامري، الإلحاد في مواجهة نفسه، ص127

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإلحاد #الداروينية
اقرأ أيضا
مختصر قصة التتار الجزء الثالث | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الثالث


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1254
أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج1 | مرابط
فكر مقالات

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج1


يبدو أن موضوع مقاصد الشريعة يحظى باهتمام بالغ في الساحات العربية خصوصا بعد أحداث سبتمبر فالسياسيون اهتموا به لتمرير أجندتهم السياسية والإعلاميون تمسكوا بها لتبرير مخالفة الإعلام للشريعة وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس أو لدى شرائح الملأ وتولت مقاصد الشريعة مع ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل مهمة تمرير لبرلة الإسلام وعصرنته وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا...

بقلم: الدكتور هيثم بن جواد الحداد
1876
إنه لقرآن كريم | مرابط
اقتباسات وقطوف

إنه لقرآن كريم


يقسم رب العزة بمواقع النجوم أي: منازلها في السماء ثم يقول: إن هذا القسم لو تعلمون عظيمأي: هذا الذي أقسم الله تبارك وتعالى به وهو مواقع النجوم قسم عظيم اليوم نحن نعرف شيئا من عظمة هذا القسم بعد أن اخترعت هذه المكبرات والمناظير التي نرى بها نجوم السماء فعلى ماذا أقسم رب العزة

بقلم: عمر الأشقر
618
تدمير الحضارة سنة الغزاة | مرابط
تاريخ

تدمير الحضارة سنة الغزاة


بينما كان فريق من التتار يعمل على قتل مسلمي بغداد وسفك دمائهم اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر عمل ليس له مسوغ إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم الديني منها والدنيوي

بقلم: د راغب السرجاني
505
انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم | مرابط
فكر تفريغات

انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم


نقف وقفة ونسأل: لماذا هذا التباين الرهيب بين ما عليه شباب أمة الإسلام الآن وبين ما ينبغي أن يكون عليه من المؤكد أن الخطأ لم ينبع من الشباب وحدهم لكن الخطأ خطأ مركب فهذه منظومة كاملة حدث فيها نوع كبير من الاضطراب والخلل في هذه المحاضرة أحصي لكم أربعة أسباب لانهيار مستوى الشباب

بقلم: راغب السرجاني
810
مراجعة لكتاب الاسترقاق القيمي | مرابط
مناقشات

مراجعة لكتاب الاسترقاق القيمي


العناصر التي تعزز أي مشروع تغريبي هي كتلة مقومات ومنها: التغطية السياسية والشرعية والنخبة الثقافية المسوقة وضعف الممانعة الشعبية وذكر ستة نماذج لمشروعات تغريبية وقام بتفصيلها وإبراز هذه العوامل الفاعلة فيها

بقلم: إبراهيم السكران
2330