إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة

إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

670 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الإسلام

والإسلام يستعمل لازما معدى بحرف اللام، مثل ما ذكر في هذه الآيات، ومثل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] (سورة الزمر: آية 54) . ومثل قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (سورة النمل: من الآية 44) . ومثل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (سورة آل عمران: آية 83) . ومثل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 71 - 72] (سورة الأنعام: آية 71، ومن الآية 72)

ويستعمل متعديا مقرونا بالإحسان، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] (سورة البقرة: الآيتان 111، 112) . وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (سورة النساء: آية 125) . فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان، وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر.

 

إسلام الوجه لله والإحسان

وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله، صوابا موافقا للسنة والشريعة، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله، كما قال بعضهم: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل

وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه، وإقامة الوجه، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] (سورة الأعراف: من الآية 29) . وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] (سورة الروم: من الآية 30) . وتوجيه الوجه كقول الخليل: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] (سورة الأنعام: آية 79) . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يقول إذا أوى إلى فراشه: «اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك»

فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه، ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد؟ أي أي وجهة وناحية تقصد، وذلك أنهما متلازمان، فحيث توجه الإنسان توجه وجهه، ووجهه مستلزم لتوجهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعا، فهذه أربعة أمور، والباطن هو الأصل، والظاهر، هو الكمال والشعار، فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وهو قول عمر رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، والعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب.

ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين، كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (سورة الملك: من الآية 2) . قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير، قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، ورويا عن الحسن البصري مثله، ولفظه: " لا يصلح " مكان " لا يقبل "، وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل، إذ الإيمان قول وعمل، لا بد من هذين، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل.

وأصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، وهذا ظاهر، فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة وهي ما أمر الله به ورسوله، لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله، فلا يقبله الله، ولا يصلح: مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب.

ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين.


 

المصدر:

شيخ الإسلام ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص58

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
786
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
591
الرجل الصفر الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الرجل الصفر الجزء الثاني


وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات وكما أن هناك رجلا صفرا فإن هناك أيضا امرأة صفرا وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معا إلا فيما يختص به الرجال من مجال ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه

بقلم: إبراهيم الدويش
583
بداية المغول المسلمين | مرابط
تاريخ

بداية المغول المسلمين


إن دولة جنكيز خان توزعت بعد وفاته إلى أربعة فروع وبدأ الإسلام ينتشر في هذه الفروع الأربعة وأصبح التتر يعتنقون الإسلام بجهود الخاقان حتى دخلوا في ظرف مائة سنة في دين الله وفي هذا المقال المختصر توضيح لبداية انتشار الإسلام في الفروع الأربعة لهذه الدولة

بقلم: راغب السرجاني
1061
دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط
فكر مقالات

دلالة الدقيق من الخلق على الله


لا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته ولا تستصغر قدره لقلة ثمن ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله ولم تفترق الأمور في حقائقها وإنما افترق المفكرون فيها ومن أهمل النظر وأغفل مواضع الفرق وفصول الحدود فمن قبل ترك النظر ومن قبل قطع النظر ومن قبل النظر من غير وجه النظر ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا

بقلم: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
2915
اللغة وتفكك العالم العربي | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

اللغة وتفكك العالم العربي


إن الحرب التي تتعرض لها اللغة العربية ومحاولات طمسها وتحويلها إلى العامية ما هي إلا أقنعة تخفي وراءها الكثير من الأهداف السياسية والاستعمارية والثقافية والفكرية سواء علم القائمون عليها ذلك أم جهلوه وهذا مقتطف من محمود شاكر في كتاب أباطيل وأسمار

بقلم: محمود شاكر
2164