أسباب سقوط الأندلس الجزء الثاني

أسباب سقوط الأندلس الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: علي محمد الصلابي

2412 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

7- غدر النصارى ونقضهم للعهود:

 

لم يكن النصارى عبّاد الصليب محلًا للعهود وأهلًا للوفاء، إلا القليل النادر فهم تبع لمصالحهم وأهوائهم، وهي التي تحكم وفاءهم ونقضهم.
قال تعالى: َ {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [المائدة :14].

لقد سطر النصارى في الأندلس تاريخًا مليئًا بالدماء، وهتك الأعراض، وقتل النفوس، وسبي النساء، قال تعالى:
ـ {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ *} [التوبة :10].
ـ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة :120].

لقد استمات النصارى في حروبهم مع المسلمين، فمارسوا كافة الأساليب المعوجة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية، ولقد استطاعوا أن يضعوا برامج محكمة للقضاء على ملوك الطوائف، ومن ثم على المسلمين عمومًا، وكان من أكبر المجرمين من ملوك النصارى الذي أشرف على هذه المخططات وسهر على تنفيذها فرناندو ملك قشتالة، واستطاعوا أن يوحدوا كلمتهم وأن يجعلوا صفهم متراصًا في مواجهة أمة الإسلام وإزالتها من الأندلس.

 

8- إلغاء الخلافة الأموية وبداية عهد الطوائف:

 

لا شك أن بداية الانهيار الفعلي في الأندلس كان بزوال الخلافة الأموية، ونشأ على إثر ذلك عهد السنوات الصعاب، وكانت كلمة الأمة واحدة وخليفتهم واحدًا، وأصبحت الأمة كما قال الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس          أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها         كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد

ولم يكن حكام الأندلس أهلًا لقيادة الأمة في عمومهم، واسمع إلى ابن حزم وهو يقول عن هؤلاء الحكام: والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب المسلمين، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفًا من سيوفه.

فبعد أن كانت دولة الإسلام واحدة، أصبحت أسر الطوائف سبعًا وعشرين طائفة أو إمارة أو دويلة تتنافس فيما بينها.

يقول د. عبد الرحمن الحجي عن هؤلاء الحكام: وهكذا وجدت في الأندلس أوضاع يحكمها أمراء، اتصف عدد منهم بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم مصالح الأمة، وتركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمنًا لبقائهم في السُّلطة، ولقد أصاب الأمة من الضياع بقدر ما ضيّعوا من الحظ الخُلقي المسلم، انحرف هؤلاء المسؤولون عن النهج الحنيف الذي كانت الأندلس تنعم به وبحضارته.

 

9- عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء:

 

لقد بذل مجموعة من العلماء جهدًا مشكورًا لتوحيد صفوف المسلمين، وتصدى أبو الوليد الباجي لهذا بنفسه بعد عودته من المشرق الإسلامي: فرفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون، ولكنه لم يصادف أسماعًا واعية، لأنه نفخ في عظام ناخرة، وعكف على أطلال داثرة، بيد أنه كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب وأجزل حظه في التنافس والتقريب، وهو في الباطن يستحل نزعته ويستقل طلعته، وما كان أفطن من فقيه رحمة بأمورهم وأعلمهم بتدبيرهم، لكنه يرجو حالا تؤوب، ومذنبًا يتوب.

إلا أن هناك بعض العلماء تخلوا عن واجبهم المقدس، وقدموا مصالحهم الذاتية على مصالح الأمة، ودخلوا في معارك فرعية وبالغوا فيها، فحين كانت الأمة تغرق في الأندلس بسبب الاجتياح النصراني المتلاطم، انصرف عدد من العلماء إلى العناية المبالغة بالفقه المذهبي وفروعه، ونسوا وتناسوا واقع الأمة والامها، وبعض هؤلاء هم ممن قال فيهم ابن حزم، رحمه الله: ولا يغرنك الفُساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، والناصرون لهم على فسقهم.

 

10- الرضا بالخضوع والذل تحت حكم النصارى والطاعة لهم:

 

ففي عام (643هـ) تم الاتفاق على أن يحكم ابن الأحمر مملكته وأراضيه باسم ملك قشتالة وفي طاعته وأن يؤدي له جزية سنوية، قدرها مئة وخمسون ألف قطعة من الذهب، وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، فيقدم إليه عددًا من الجند أينما طلب منه ذلك، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة باعتباره من الأمراء التابعين للعرش، وسلّم ابن الأحمر جيّان، وأرجونة، وبركونة، وبيغ والحجاز وقلعة جابر للنصارى.

ولما حاصر النصارى إشبيلية في جمادى الأول عام (645هـ) قدّم ابن الأحمر قوة من الفرسان للمعاونة في حصار الحاضرة الإسلامية والاستيلاء عليها، وأبدى المسلمون آيات من البسالة والجلد في الدفاع عن إشبيلية، وطال الحصار زهاء ثمانية عشر شهرًا، اضطروا بعدها إلى الخضوع والتسليم مقابل أن ينجوا بأنفسهم وأموالهم. وفي أوائل (رمضان 646هـ) دخل فرناندو الثالث مدينة إشبيلية، وفي الحال حوّل مسجدها الجامع إلى كنيسة وأزيلت معالم الإسلام منها بسرعة.

ونتيجة لتصرفات هؤلاء الولاة هاجر كثير من أهل الأندلس المسلمين إلى بلاد المغرب فرارًا بدينهم وأرواحهم، مع أن بلادهم يحكمها المسلمون حتى قال شاعر الأندلس ابن الصلصال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس          فما المقام بها إلا من الغلط
السلك يُنشر من أطرافه وأرى       سلك الجزيرة منشورًا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه        كيف النجاة مع الحياة في سفط

 

11- سوء سياسة الولاة وإرهاق الناس بالجبايات:

 

وظهرت ظواهر متعددة تدل على سوء السياسة في الأندلس، منها تولية صغار السن الولاية وبعضهم لم يبلغوا الحادية عشرة، ومنها الاستئثار بالأمر وترك الشورى، ومنها تخوين الأمين، وتأمين الخؤون، ومنها ظهور الظلم والعسف والجور، وتمثل ذلك في صور عدة منها: إرهاق الأمة بالضرائب والجبايات والإتاوات والمكوس التي ما أنزل الله بها من سلطان.

يقول الدكتور الحجي: ساءت أحوال بلنسية بسوء السياسة وإرهاق أهلها بالضرائب لسداد مطالب القشتاليين الذين كثر عبثهم، وغدت لهم السيادة الحقيقية على المدينة، وغادرها كثير من أعيانها نتيجة لهذه السياسة الطائشة التي اتبعها القادر إرضاء لأنانيته ورغبة في البقاء في مركزه، ولو كان في ذلك ضياع الدين وانتقاص البلد وإرهاق الناس، وتحت حماية عدو متربص وخصم غادر.

وترتب على هذه السياسات الظالمة، والمظاهر المنحرفة، والمظالم المتعدية، والجور المنتشر: اضطرابات وفتن وصراعات كثيرة، فمثلًا مملكة غرناطة حكمت بين عامي (635هـ/893هـ) من قبل تسعة وعشرين حاكمًا، حتى إن بعضهم لم يستمر في الحكم أكثر من عدة أشهر وبعضهم سنة أو سنتين. لقد كان تقديم المصالح الشخصية مقدمًا عند كثير من الولاة على مصالح المسلمين، ولذلك غلبت الأنانية وحب الذات والزعامة على كثير من المبادىء والمثل والقيم.

 

12- الثورات الداخلية في الأندلس:

 

وكانت لها أسباب متعددة منها ظلم الولاة، ومنها قيام بعض النصارى الذين أخفوا مسيحيتهم وأظهروا الإسلام، فاستطاعوا أن يتصلوا بممالك النصارى ويقوموا بدور تخريبي واستخباراتي ضد دولة الإسلام في الأندلس، وظهرت ثورات عديدة في الأندلس تنادي وتطالب بالاستقلال الذاتي، ومن أشهر هذه الثورات تلك التي قادها عمر بن حفصون والذي استطاع أن يعزل قرطبة عن سائر المناطق الأخرى، ثم اتصل بالعباسيين في العراق والأغالبة في إفريقية، ولما يئس من الوصول إلى أهدافه أظهر ما كان يبطنه من النصرانية عام (899م) واتخذ اسم صموئيل وهو اسم في المعمودية، وأعلن عداءه للإسلام والمسلمين، وقاتلهم بكل كره وعنف وحقد، حتى كاد أن يسقط عاصمة الأمويين.

إلى أن جاء الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث ـ الناصر وكان شجاعًا حازمًا، فواصل الفتوحات وطالت مدته في الحكم «نصف قرن» فكانت أول مدينة استسلمت له إستجة، ثم لحقت بها مدينة ألبيرة، كذلك استسلمت مدينة جيان وقبلت «أرخدونة» أن تدفع الجزية، ورضخت إشبيلية لقوات عبد الرحمن (913م) وأخضع «ريه» التي كانت ملاذًا لعاصمة ابن حفصون الذي قاد حركة عدائية ضد الإسلام في الأندلس (37) عامًا وحاصر طليطلة سنة (932م) واستسلمت له، وكان الأعداء يتربصون بالإسلام في الأندلس، فملوك النصارى في الشمال لا يكلّون ولا يملّون في زرع الجواسيس وتفجير الثورات ودعم المنشقين من أجل القضاء على الإسلام، والدولة العبيدية الفاطمية الرافضية في إفريقية تحالفت مع ابن حفصون النصراني المرتد ضد مسلمي الأندلس، وأرسلت الدعاة وأسسوا حزبًا عبيديًا رافضيًا في الأندلس وتستروا بالطرق الصوفية، وقاومهم عبد الرحمن الثالث، واستطاع أن يقضي على معظم مخططات الأعداء الهادفة للقضاء على الإسلام في الأندلس، وكان بوسع عبد الرحمن أن يقضي على ممالك النصارى في الأندلس، ولكن لله في خلقه شؤون.

لقد كانت الشبكات التخريبية الاستخباراتية التي فجرت الثورات وتسترت بالإسلام من الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة الأندلس الإسلامية وزوال الإسلام منها.
 
ولقد اكتشفت مخابرات دولة المرابطين تلك اللعبة المزدوجة التي كان يقوم بها بعض الخونة المندسين بين المسلمين، والذين يتجسسون على حكام الإسلام في الأندلس والمغرب لصالح ملوك النصارى، فاستفتى السلطان يوسف بن تاشفين بشأنهم الفقهاء فأفتوا بوجوب هدم الكنيسة القوطية في غرناطة التي كانت بؤرة للفساد والتجسس على الدولة المرابطية السنية، وواصل ابنه الأمير علي بن يوسف متابعة الأعمال التخريبية فألقى الفبض بعد ثبوت التهم على عملاء النصارى، فأعمل في بعضهم السيف، ونفى من تبقى منهم إلى المغرب، لقد أثبتت التحقيقات أنهم كانوا يتجسسون لصالح ملك النصارى القشتالي وغيرهم من ملوك القوط ولم تعط مخابرات دولة المرابطين أدنى فرصة لهؤلاء المندسين.

 


 

المصدر:

  1. علي محمد الصلابي، دولة الموحدين، ص293
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سقوط-الأندلس
اقرأ أيضا
سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب


مقتطف من كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة لعبد الوهاب المسيري يذكر فيه أصل الإشكالية الأخلاقية في الغرب وكيف قادت النسبية المتزايدة إلى انهيار كل شيء تقريبا فالإنسان في النهاية يحتاج إلى وجود متجاوز يحتاج إلى إله فوق كل شيء وليس مثله شيء ولما تلاشت هذه الفكرة أصبح الإله الجديد هو الجسد

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1995
حيثما كان العدل فثم شرع الله | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

حيثما كان العدل فثم شرع الله


وليس للمسلم أن يطرح حكم الشريعة طلبا للعدل استقلالا عنها فإن هذا فاسد من جهة الدين والذي يلزم المسلم بالاحتكام للشرع وليكن على ثقة أنه متى التزم حكم الشريعة فسيؤول به الأمر إلى تحقيق العدل وأنه متى خالفها فسيقع في مناقضة العدل إذ اطراح الحكم والحالة هذه اطراح للعدل أيضا

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2404
إن الحلال بين وإن الحرام بين | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الحلال بين وإن الحرام بين


قد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن. ومنه ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه. فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه.

بقلم: ابن رجب
384
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
743
ونبلوكم بالشر والخير فتنة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ونبلوكم بالشر والخير فتنة


مقتطف من كتاب في ظلال القرآن قول الله تعالى ونبلوكم بالخير والشر فتنة يقف بنا الأستاذ سيد قطب أمام تفسير الابتلاء بالخير فالابتلاء بالشر مفهوم ويدركه الإنسان ولكن كيف يكون الابتلاء بالخير وكيف يمكن التعامل معه هذا ما يتناوله الكاتب

بقلم: سيد قطب
1901
نماذج لشخصيات ناقدة للجندر: دكتور ليناردو ساكس | مرابط
الجندرية

نماذج لشخصيات ناقدة للجندر: دكتور ليناردو ساكس


بين يديكم مقال يعرض لنا أحد النماذج الغربية الناقدة للجندرية الجديدة وهو الدكتور ليوناردو ساكس الذي تنبه لهذه المشكلة منذ ما يزيد عن عشرين سنة وأصدر عددا من المؤلفات والمقالات يحلل فيها هذه الأزمة ويحذر منها ويشير إلى مآلاتها ومخاطرها

بقلم: مجلة أوج
645