آيات التحدي في القرآن الكريم

آيات التحدي في القرآن الكريم | مرابط

الكاتب: محمد بن عبدالله العبدلي

1345 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

إن القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم معجزة عظمى وقرآنًا يتلى، تولى حفظه رب العالمين جل جلاله، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:8]، فالقرآن محفوظ في السطور ومحفوظ في الصدور، أعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، معجز أعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، تحدى كفار قريش وهم الفصحاء أن يأتوا بمثله، مع أنه مركب من الحروف العربية (أ، ب، ت، ث،...) التي يتكلم بها أهل العربية، وألفاظه ومفرداته موجودة في كلام العرب، لكن الكل يعجز عن أن يأتي بمثل أقصر آية منه.

فسبحان من هو كلامه، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله، عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا"[1].

ويقول مصطفى صادق الرافعي: "أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرتها وكيفما تأملتَها وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها ومن أي جهة وافقتها؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنَح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلاف حروفها وتباين معانيها وتعدد مواقعها من أن تكون جوهرًا واحدًا في الطبع والصقل، وفي الماء والرونق؛ كأنما تتلامح بروح حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالِطَ إحساسك فلن تكون معها إلا على حالة واحدة.

تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحًا تداخلُك بالطرب، وتُشرِب قلبكَ الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام، وتصحفت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفلُ، أو يستمر وينتقض، أو يأتلف ويختلف... إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلال أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخلقةِ وطريقةِ النشأة...[2].

 

تحدي فصحاء اللغة

فقد ورد في كتاب الله تبارك وتعالى أكبر تحدٍّ لقريش وهم أهل اللغة والفصاحة البلغاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال رب العزة والجلال: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء 88]، ففي هذه الآية يقول الله: قل لهم يا محمد وأخبرهم بأنه لو اجتمع الإنس والجن واتفقوا على أنهم يأتوا بمثل هذا القرآن فإنهم لن يستطيعوا، ولو كان بعضهم لبعض مناصرًا، يقول البغوي رحمه الله: " قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ عَوْنًا وَمُظَاهِرًا.

نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْكُفَّارُ: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فِي النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ وَهُوَ كَلَامٌ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَأَتَوْا بِمِثْلِهِ"[3]، ويقول السعدي رحمه الله: " وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.

ووقع كما أخبر الله، فإن دواعي أعدائه المكذبين به، متوفرة على رد ما جاء به بأي: وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه، فعلم بذلك، أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا، وعجزوا عن معارضته.

وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه، أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا، والأشجار كلها أقلام، لنفذ المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله"[4].

 

عجز العرب

قال أبو جعفر النحاس: "تحدّاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فعجزوا عنه من جهات: إحداها: وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرًا أو حديثًا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفًا، ومن إعجازه أنه لا يتغيّر، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة، ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز، نحو قوله جلّ وعزّ: ﴿ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ﴾ [الأنفال:58] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة، والله لا يحبّ الخائنين"[5].

ثم تحداهم بعد أن عجزوا عن الإتيان بمثله بأن يأتوا بعشر سور من مثله كما في قوله سبحانه: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [سورة هود:13]، أي: إن قلتم بأن محمدًا افتراه من عند نفسه فأتوا بعشر سور مثله، واستعينوا بمن استطعتم من دون الله عز وجل إن كنتم صادقين، بل قال سبحانه: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [سورة يونس:38]، قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كفاك حجة على حقيقة ما أتيتهم به ودلالة على صحة نبوتك، هذا القرآن من سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، وهذا القرآن جميع الخلق عجزة عن أن يأتوا بمثله. فإن هم قالوا: افتريته: أي اختلقته وتكذبته. ودل على أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ إلى آخر الآية، ويعني تعالى ذكره بقوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ أي أيقولون افتراه وقد دللنا على سبب إدخال العرب "أم" في مثل هذا الموضع فقل لهم: يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، يعني مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترى، وليس بآية معجزة كسائر ما سألته من الآيات"[6].

وقال ابن سعدي رحمه الله: " ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ أي: افترى محمد هذا القرآن؟

فأجابهم بقوله: ﴿ قُلْ ﴾ لهم ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنه قد افتراه، فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة، وأنتم الأعداء حقًا، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته، فإن كنتم صادقين، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات"[7].

ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله كما في قوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:23-24]، أي إن كنتم في شك مما أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَعَارِضُوهُ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فإنكم لا تستطيعون ذلك، و: ﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ﴾ أَعْوَانُكُمْ أَيْ: قَوْمًا آخَرِينَ يُسَاعِدُونَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وقيل: شركاءكم أَيِ اسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ فِي ذَلِكَ يَمُدُّونَكُمْ وَيَنْصُرُونَكُمْ، وقيل: نَاسٌ يَشْهَدُونَ بِهِ يَعْنِي: حُكَّامَ الْفُصَحَاءِ[8].

قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر أن المراد بقوله: ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ القرآن ورجحه ثم قال: "لأن التَّحَدِّيَ عَامٌّ لَهُمْ كُلّهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ أَفْصَحُ الْأُمَمِ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِهَذَا فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ عَدِيدَة، مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَبُغْضِهِمْ لِدِينِهِ، وَمَعَ هَذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ "وَلَنْ": لِنَفِيِ التَّأْبِيدِ أَيْ: وَلَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا. وَهَذِهِ -أَيْضًا- مُعْجِزَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يُعَارَضُ بِمِثْلِهِ أَبَدًا وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْأَمْرُ، لَمْ يُعَارَضْ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا وَلَا يُمْكِنُ، وَأنَّى يَتَأتَّى ذَلِكَ لِأَحَدٍ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْخَالِقِ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ؟!

وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فُنُونًا ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هُودٍ:1]، فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ وَفُصِّلَتْ مَعَانِيهِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَافِ، فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَصِيحٌ لَا يُجَارَى وَلَا يُدَانَى، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبَاتٍ مَاضِيَةٍ وَآتِيَةٍ كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ كَمَا قَالَ: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ﴾ [الْأَنْعَامِ:115] أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، فَكُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَةٌ وَلَا كَذِبٌ وَلَا افتراء كَمَا يُوجَدُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمُجَازَفَاتِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا، كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْرِ: إِنَّ أَعْذَبَهُ أَكْذَبُهُ، ....

وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ حَلَا وَعَلَا لَا يَخلق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَمَلُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ، وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَحُ الْقُلُوبَ وَالْآذَانَ، وَيُشَوِّقُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السَّجْدَةِ:17]، وَقَالَ: ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزُّخْرُفِ:71].

وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ﴾ [الْإِسْرَاءِ:68]، ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الْمُلْكِ:16-17]، وَقَالَ فِي الزَّجْرِ: ﴿ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ:40]، وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ [الشُّعَرَاءِ:205-207] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ"[9].

فكلام الله تبارك وتعالى لا يشبع منه العلماء، ولا يبلى من كثرة الترداد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، لو أنزل على الجبال الشوامخ لخشعت وتصدعت من خشية الله، قال الله: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر:21]، جعلنا الله من أهل القرآن، العاملين به الواقفين عند حدوده، ونسأل الله أن يجعلنا من التالين له آناء الليل وأطراف النهار، والحمد لله رب العالمين.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. تفسير ابن كثير (2/ 45).
  2. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي (ص: 166).
  3. تفسير البغوي (5/127).
  4. تفسير السعدي (ص:466).
  5. إعراب القرآن للنحاس (2/ 283).
  6. تفسير الطبري (12/ 343).
  7. تفسير السعدي (ص: 378).
  8. انظر: تفسير ابن كثير (1/199)، بتصرف.
  9. تفسير ابن كثير (1/ 199-200)، بتصرف يسير.


المصدر:


موقع الألوكة

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
حين يتشاغل الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

حين يتشاغل الناس


عن أنس بن سيرين قال: بلغنا بالكوفة أن مسروقا كان يفر من الطاعون فأنكر ذلك محمد وقال: انطلق بنا إلى امرأته فلنسألها فدخلنا عليها فسألناها عن ذلك فقالت: كلا والله ما كان يفر ولكنه كان يقول: أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة فكان يتنحى فيخلو للعبادة قالت: فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه قالت: وكان يصلي حتى تورم قدماه

بقلم: إبراهيم السكران
320
أغلال المجتمع التقني | مرابط
اقتباسات وقطوف

أغلال المجتمع التقني


إن الانسان سيصبح مغلولا خلال سنين طويلة في المجتمع التقني لكنه لن يموت في الأغلال. فالمجتمع التقني يستطيع ابتداع الرفاهية لكنه لا يستطيع خلق الفكر. ومن دون الفكر لا توجد العبقرية. ومجتمع محروم من رجال عباقرة مجتمع محكوم عليه بالفناء

بقلم: قسطنطين جيورجيو
403
شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون


تقول الشبهة: جاء في القرآن أن كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى فكيف يستوي ذلك مع ما نجده في حال الإنسان حيث نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر والمقال الذي بين يدينا يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويوضح الخطأ فيها

بقلم: محمد عمارة
1512
وظيفة الإنسان | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

وظيفة الإنسان


ما هي وظيفة الإنسان في الحياة ربما تجد أن إجابة هذا السؤال ليست واحدة عن جميع الناس فكل يرى الحياة على حسب أولوياته وعلى حسب عقيدته ومذهبه الفكري أو العقدي وفي هذا المقال يستعرض المؤلف الوظيفة الحقيقية للإنسان التي خلقه الله من أجلها وفي المقابل الوظيفة الإنسانية الأولى من وجهة نظر التيار المدني الليبرالي أو العلماني

بقلم: إبراهيم السكران
2031
ماذا لو | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

ماذا لو


عندما نسمع الآيات التي تتكلم عن القدر والأحاديث مثل واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فلنعلم أنها تذكرنا بحقيقة أن هذه الأقدار إنما قدرها الله الذي نعلم عن علمه وحكمته ولطفه ورحمته وعدله فلنسلم له أنفسنا بطمأنينة

بقلم: إياد قنيبي
2291
الإيمان الديني: هل هو قائم على التسليم أم البرهنة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

الإيمان الديني: هل هو قائم على التسليم أم البرهنة؟


يقول عدد من أنصار العلموية في العالم العربي ودعاة المذهب الإيمانوي في الغرب إن الاستدلال للإيمان الديني ببرهان الإعجاز العلمي أو أي برهان آخر من أي جنس باطل ضرورة فإن الإيمان الديني قائم على التسليم لا البرهنة كما أن الاستدلال بالوحي للعلم داع لترك البحث العلمي والركون إلى أخبار الأسفار المقدسة التي لم تنزل لصناعة وعي علمي

بقلم: د. سامي عامري
411