وقفات مع حديث تعس عبد الدينار

وقفات مع حديث تعس عبد الدينار | مرابط

الكاتب: محمد صالح المنجد

2011 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

أما بعد:

أيها الإخوة: حديثٌ آخر من أحاديث الرقائق الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم وذكرنا به ألا وهو الحديث الذي رواه أبو هريرة في صحيح البخاري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله! أشعث رأسه مغبرة قدماه! إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) روى هذا الحديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق وفي كتاب الجهاد من صحيحه ، وكذلك روى طريقًا له وروايةً الإمام الترمذي رحمه الله تعالى.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( تعس عبد الدينار ) تعسَ معناها: هلك، دعاءٌ عليه بالخيبة، والهلاك ضد السعادة، شقيَ وهلك وانكب على وجهه، مثلما لو تعثر الشخص وانكب على وجهه، فكلمة تعسَ: دعاءٌ عليه بالهلاك، إن النبي عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، يدعو على هذا الرجل بالهلاك والشقاء وأن يتعثر وينكب على وجهه، من هو؟ عبد الدينار.

 

عبد الدينار وشدة تعلقه بالمال

( تعس عبد الدينار ) الدينار من الذهب، والدرهم من الفضة، والدينار يساوي عشرة دراهم، في المتوسط هكذا كان الدينار الإسلامي، قال: (عبد الدينار) أضاف العبودية إلى الدينار؛ لأن هذا الرجل تعلق قلبه بالدينار، كما يتعلق قلب العبد بربه، فكان الدينار أكبر همه فقدمه على طاعة ربه، وكذلك كان حاله مع الدرهم، فهذا يبين حال من يعبد الدنيا ويتذلل لها، ويخضع لها، فتكون مناهُ وغايته، فيغضب من أجلها، ويرضى من أجلها، ولذلك سماه عليه الصلاة والسلام عبدًا.

إنه يجمع الدينار والدرهم من الذهب والفضة من أي وجهٍ كان، قد بذل حياته لهذا الجمع، وهذه المحافظة وهذه التنمية لهذه الدنانير والدراهم مقدمًاإياها على طاعة الله، فلو تعارضت مع الشريعة قدمها على الدين، ولذلك كان عبدًا لها، لذلك كان سروره وحزنه من أجلها فهو عبدٌ لها، يعمل لها طيلة عمره. (تعسَ عبد الخميصة، تعسَ عبد الخميلة) الخميصة والخميلة: نوعان من القماش والثياب، ثوب الحرير خميصة، وكذلك الخميلة: هي القطيفة، الثوب الذي له خمل من أي شيءٍ كان هذا الخمل، والخميل: هو الأسود من الثياب أيضًا، فالخميصة: كساءٌ جميل، والخميلة: فرشٌ وثير، فهذا الرجل متعلقٌ قلبه ليس بالدينار والدرهم فقط، وإنما أيضًا بالمفارش والثياب، بالحلل والأثاث، فقلبه متعلقٌ بالدنانير والدراهم وما يلبس وما يفرش كل همه في هذه الأشياء، ليس له همٌ إلا هذه فكان عابدًا له، فسماه عبد الخميصة وعبد الخميلة.

لقد جعل الدين وسيلةً للدنيا، فالدنيا عنده أعظم، لقد جعل الدنيا هي الأساس وهي المقدمة، فهل اكتفى عليه الصلاة والسلام بالدعاء عليه مرةً تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس.. تعس..؟ لم يكتفِ بذلك.

 

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الدينار بأنه إذا شيك فلا انتقش

لقد دعا أربع مرات على كل عابد لهذه الأشياء، ثم إنه أعاد الدعاء، فقال: (تعس عبد الدينار ) عاوده المرض، انقلب على رأسه، باءَ بالخيبة، خاب وخسرَ، وهذا فيه ترقٍ في الدعاء عليه، لأنه إذا تعسَ، انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعدما سقط، وليس هذا فقط دعاء عليه، وإنما تتوالى الأدعية من النبي صلى الله عليه وسلم على عابد الدنيا,
يقول: ( وإذا شيك فلا انتقش ) إذا أصابته شوكة (شيك): أصابته شوكة، يدعو عليه ألا يجد أحدًا يخرجها له بالمنقاش، ولا يستطيع أن يخرجها هو، هذا الدعاء عليه مرتبط بمقصوده، عكس مقصوده؛ لأن من عثر فدخلت في رجله شوكة فلم يجد من يخرجها، ماذا يصبح بالنسبة للحركة والسعي؟

عاجزًا عن السعي والحركة، وهذا الرجل كل سعيه وحركته من أجل الدنيا، فدعا عليه دعاءً يعطله عن ما نذر نفسه له من الدنيا، ويدعو عليه ألا يستطيع أن يحصل الدنيا، وأن يقعد به المرض، تقعد به صحته عن مواصلة السعي بالدنيا، وإذا وقع في البلاء لا يجد من يترحم عليه، لأن من وقع عليه البلاء فترحم عليه الناس وعطفوا عليه ورقوا له ربما هان عليه الخطب.

(إذا شيك فلا انتقش)، ولا أحد يخرجها له بالمنقاش، فقد يهتم به أحد ليخرجها له بالمنقاش، لكن يدعو عليه أنه إذا أصابته ولو شوكة، بألا يجد أحدًا يخرجها له، فكيف بما هو أعظم من الشوكة؟!

إذًا: النبي عليه الصلاة والسلام يدعو عليه ألا يرق له قلب إنسان، ولا يعطف عليه إنسان، حتى لا تهون عليه مصيبته، ولا يتسلى بكلام الناس وتعزيتهم له، بل إنه يزيد غيظه، لأنه لا يجد أحدًا يهتم به، ولا شك أن فرح الأعداء غيظ بالنسبة للمصاب.

فما دعا عليه بهذه الدعوات، وتنوعت الدعوات وتكررت وصارت بهذه الشدة إلا لأن هذا الرجل وضعه في غاية السوء، إنه جعل مقصوده ومطلوبه هو المال والدنيا، وسعى للتحصيل بكل سبيلٍ ممكن، حتى صارت نيته مقصورةً على الدنيا يغضب لها ويرضى لها، ولذلك سماه عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر في هذا الحديث دعاءٌ وما هو خبر: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) هذه حال من أصابه شر، لا نال المطلوب ولا تخلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال أيضًا.

 

عابد المال: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط

قال في الحديث: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) محتمل أن يكون المعطي هو الله، ومحتمل أن يكون المعطي إنسانًا آخر، فهذا الرجل: إذا أعطاه الله شيئًا ربما يفرح لذلك وينشرح صدره، وإذا ما أعطاه الله قال: (ربي أهانن) سخط على ربه، وسخط على القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون المعطي والمانع شخصًا من الأشخاص، مثل حال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا قال الله عنهم؟ قال جل وعلا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].

إذًا هذا يرضى إذا أعطي، أعطاه الله أعطاه الناس يرضى إذا أعطي، وإذا لم يعط وحرم ومنع، سخط؛ سخط على الله أو على الناس أو على الإمام أو على أمير الجيش لأنه لا يعطيه، المهم أن يأخذ، وإذا لم يعطَ، فهو ساخط وغاضب يسب ويلعن؛ لأن الهدف عنده هو المال، ما الذي يسكته؟ الإعطاء، وما الذي يثيره؟ المنع، وإذا حرمه الله من شيء، قال: لماذا كنت فقيرًا وهذا غني؟ فيكون ساخطًا على قضاء الله وقدره، والله إذا أعطى يعطي لحكمة، وإذا منع يمنع لحكمة سبحانه وتعالى، إن هذا الرجل لا يفقه أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، إن هذا الرجل يظن أن الله إذا أعطاه فإن ما هو يحبه، ما هو الدليل على ذلك؟ ما هو الدليل على أن بعض الناس يظنون أن الله إذا أعطاهم أنه يحبهم؟

قال تعالى:  رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15] فإذا أعطاه الله سبحانه وتعالى قال: هذا إكرام من الله ذلك قد يكون ابتلاء ومحنة، وقد تكون هذه المنحة محنة عليه وهو لا يدري: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] وهذه يعتبرها إهانة.

والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر، فهو راضٍ على ربه في جميع الحالات، لما كان هذا الرجل رضاه لغير الله وسخطه لغير الله، وكان متعلقًا بالمال، بالمتاع، أو بالرئاسة، أو بالصورة، أو بأي شيءٍ من أهواء النفس، فهذا عبد ما يهواه، وهذا هو الرق في الحقيقة، ولذلك سماه عبدًا، فكل ما استرق القلب واستعبده، فهو عبده، صاحب هذا القلب عبد لهذا الشيء.

 


 

المصدر:

https://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=232680

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العبودية #المال #الدرهم #الدينار
اقرأ أيضا
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1505
أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2 | مرابط
فكر

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2


يبدو أن موضوع مقاصد الشريعة يحظى باهتمام بالغ في الساحات العربية خصوصا بعد أحداث سبتمبر فالسياسيون اهتموا به لتمرير أجندتهم السياسية والإعلاميون تمسكوا بها لتبرير مخالفة الإعلام للشريعة وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس أو لدى شرائح الملأ وتولت مقاصد الشريعة مع ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل مهمة تمرير لبرلة الإسلام وعصرنته وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا...

بقلم: الدكتور هيثم بن جواد الحداد
1906
ليلة في بيت النبي الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الثالث


إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقا في كتاب الله في قوله تعالى: واضربوهن النساء:34 فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضربا شديدا وأن يكون ضربا خفيفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اضربوهن ضربا غير مبرح أي: غير شديد فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح

بقلم: أبو إسحق الحويني
854
دين الأهوائية | مرابط
مقالات

دين الأهوائية


فمعظم الغربيين يمكن تعريفهم بأنهم نصارى الهوية لادينيون المنهج! وبينهما دين أو عقيدة أهوائية محضة فتجد الشخص يؤمن بالمتناقضات الصارخة لمجرد أن كلا منها توافق هواه في جانب من الجوانب

بقلم: الزبرقان
286
من شبهات الحشوية | مرابط
مناظرات اقتباسات وقطوف

من شبهات الحشوية


وقد يحكى عن بعضهم أنه سمع كلام لا معنى له في نفس الأمر كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بحشوية أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا.. لكن هذا القول لا أعرف به قائلا بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
408
الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام


الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة من يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته وأخذ ينفث الزمن في الهواء الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل هذا كل ما في الأمر

بقلم: إبراهيم السكران
489