محاورة دينية اجتماعية الجزء الثاني

محاورة دينية اجتماعية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

1754 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الباطل إذا دخل القلب لا يخرج بسهولة

فقال المنصوح: لا يخفى عليك يا أخي أن الباطل إذا دخل في القلوب وتمكن منه لا يخرج بسهولة، فأريد أن توضح لي توضيحًا تامًّا بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون، فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم؛ ليغتر به من لا بصيرة له.
 
فقال له الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان، وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحد من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه، فأنبئك على وجه الإجمال والتنبيه اللطيف:
 
إذا أردت أن تقابل بين الأشياء المتباينات فانظر إلى أساسها الذي أُسِّست عليه، وإلى قواعدها التي أنبتت عليها، وانظر إلى آثارها ونتائجها وثمراتها المتفرعة عنها، وانظر إلى أدلتها وبراهينها التي بها ثبتت، وانظر إلى ما تحتوي وتشتمل عليه من الصلاح والمنافع ومن المفاسد والمضار، فعند ذلك إذا نظرت لهذه الأمور بفهم صحيح وعقل رجيح، ظهر لك الأمر عيانًا.
 

الدين الحق الذي دعت إليه الرسل

فإذا عرفت هذه الأصول؛ فهذا الدين الحقُّ الذي دعت إليه الرسل عمومًا، وخاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خصوصًا، قد بُني وأُسِّس على التوحيد والتألُّه لله وحده لا شريك له، حبًّا، وخوفًا، ورجاء، وإخلاصًا، وانقيادًا، وإذعانًا لربوبيته، واستسلامًا لعبوديته، قد دلَّ على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، ودلَّت عليه جميع الكتب السماوية، وقرَّره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة، والألباب الرزينة، والأخلاق العالية، والآداب السامية؛ كلُّ أولئك اتفقوا على أن الله منفرد بالوحدانية، منعوت بكل صفة كمال، موصوف بغاية الجلال والعظمة والكبرياء والجمال، وأنه ربُّ كلِّ شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وأنه منزَّه عن كلِّ صفة نقص وعن مماثلة المخلوقين، وأنه لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر إلا هو، فالدين الإسلامي على هذا الأصل أُسِّس، وعليه قام واستقام.
 
 

ما عليه أهل الإلحاد

وأما ما عليه أهل الإلحاد، فإنه ينافي هذا الأصل غاية المنافاة؛ فإنه مبني على إنكار البارئ رأسًا، فضلًا عن الاعتراف له بالكمال، وعن القيام بأوجب الواجبات، وأفرض الفروض؛ وهو عبوديته وحده لا شريك له.
 
فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكارًا لأظهر الأشياء وأوضحها، فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف؟  {فَبِأَيِ ّحَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه، وعن التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع، وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلوِّ قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك، فهم أجهل الناس، وأقلُّهم بصيرة ومعرفة بشريعة الإسلام، وأصول الدين وفروعه.
 
فتجدهم يكتبون ويتكلمون، ويدَّعون لأنفسهم من العلم والمعرفة والثقافة واليقين ما لا يصل إليه أكابر العلماء، ولو طلب من أحدهم أن يتكلم عن أصل من أصول الدين العظيمة الذي لا يسع أحدًا جهله، أو على حكم من الأحكام في العبادات والمعاملات والأنكحة، لظهر عجزه، ولم يصل إلى ما وصل إليه كثير من صغار طلبة العلم الشرعي. فكيف يثق العاقل- فضلًا عن المؤمن- بأقوالهم عن الدين؟ فأقوالهم في مسائل الدين لا قيمة لها أصلًا، ولو سبرت حاصل ما عليه رؤساؤهم لرأيتهم قد اشتغلوا بشيء يسير من علوم العربية، وترددوا في قراءة الصحف التي على مشربهم، وتمرَّنوا على الكلام الذي من جنس أساليب كثير من هذه الصحف الرديئة الساقطة، فظنوا بأنفسهم، وظنَّ بهم أتباعهم الاضطلاع بالمعارف والعلوم، فهذا أسمى ما يصلون إليه في العلم. أما الأخلاق فلا تسأل عن أخلاق من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يعتقد الأديان الصحيحة، فإن الأخلاق نتائج الاعتقادات الصحيحة والفاسدة.
 
فغاية ما عند هؤلاء التملق القولي والفعلي، والخضوع الكاذب للمخلوقين، وهم مع هذا الخضوع السافل تجد عندهم من العجب والكبر واحتقار الخلق والاستنكاف عن مخالطة من يستنقصونهم شيئًا كثيرًا، فهم أوضع خلق الله وأعظمهم كبرًا وتيهًا.
ثم إنهم يستعينون على هذا الخُلق المسمَّى عندهم بالثقافة، بالتصنع والتجمل بالملابس والفرش والزخارف،، ويُفنون كثيرًا من أوقاتهم بذلك، وقلوبهم خراب خالية من الهدى والأخلاق الجميلة، فالجمال الظاهر الباطل ماذا يغني عن الجمال الحقيقي.
 
ثم إذا لحظت إلى غاياتهم ومقاصدهم فإذا هي أغراض دنية، ومقاصد سفلية، ومطامع شخصية، وإذا سبرت أحوالهم رأيتهم إذا اجتمعوا تظنهم أصدقاء مجتمعين، فإذا افترقوا فهم الأعداء  {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
 
وما وصفت لك من أحوالهم – وأنت تعرف ذلك – قليل من كثير، فكيف ترضى أن يكون هؤلاء أحبابك وأصدقاؤك؛ ترضى لرضاهم، وتسخط لسخطهم، وتقدمهم على حظوظك الحقيقية وسعادتك الأبدية؟
 
فانظر إلى صفاتهم نظر التحقيق والإنصاف، وقارن بينها وبين نعوت البررة الأخيار الذين امتلأت قلوبهم من محبة الله والإنابة إليه، والإيمان وإخلاص العمل لأجله، وفاضت ألسنتهم بذكر الله والثناء عليه، واشتغلت جوارحهم في كل وسيلة تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رضوانه وثوابه ونفع الخلق، أشجع الناس قلوبًا وأصدقهم قولًا، وأطهرهم أخلاقًا وأزكاهم عملًا، وأقربهم إلى كل خير، وأبعدهم من كلِّ شرٍّ، يكفون عن الخلق الأذى، ويبذلون لهم الندى، ويصبرون منهم على الأذى.
 
أفتقدم على هؤلاء الأنجاب الغرر مَن مُلِئت قلوبهم من الشك والنفاق، وفاضت على ظاهرهم فاكتسوا لذلك أرذل الأخلاق، يقومون بالنفاق والرياء، ويقعدون بالتملق والإعجاب والكبرياء، وصفُهم القسوة والطمع والجشع، ونعتهم الكذب والغش والبهرجة والخنوع، قد منعوا إحسانهم لكل مخلوق، واتصفوا بكل فسوق، قد خضعوا في بحوثهم العلمية لكل مارق، وتبعوا في أخلاقهم كل رذيل وفاسق.
 
قال المنصوح: والله ما تعديت في وصفهم مثقال ذرة.

 


 

المصدر:

  1. مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/251)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مناظرات #الإلحاد
اقرأ أيضا
سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب


مقتطف من كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة لعبد الوهاب المسيري يذكر فيه أصل الإشكالية الأخلاقية في الغرب وكيف قادت النسبية المتزايدة إلى انهيار كل شيء تقريبا فالإنسان في النهاية يحتاج إلى وجود متجاوز يحتاج إلى إله فوق كل شيء وليس مثله شيء ولما تلاشت هذه الفكرة أصبح الإله الجديد هو الجسد

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1996
القلة المؤمنة | مرابط
فكر مقالات

القلة المؤمنة


يتمنى الصالحون من أبناء هذه الأمة دائما أن يشاهدوا أمتهم في مقدمة الأمم وأن يسعدوا -وتسعد الدنيا معهم- بعزتها وقوتها ومجدها لكن مع أن الأمنية واحدة إلا أن الكثير يختلف في طريق الوصول إليها والواضح أن التاريخ لا يصنعه إلا فئة قليلة مؤمنة ثابتة يكتب الله لهم النصر وهذا ما يستعرضه الكاتب في المقال

بقلم: د راغب السرجاني
2027
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج2 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج2


ويلزم من ظهور الجهل قبض العلم ومن قبض العلم ظهور الجهل ومن انتفاء الجهل ظهور العلم وكلها متلازمة تكون بين زمن إلى زمن تظهر وتخبو حتى تزول ويتأرجح ذلك بحسب وجود العلم والخيرية بين الناس والخيرية المراد بها هنا هي وجود العلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فالخيرية المراد بها هنا هي الفقه في الدين

بقلم: عبد العزيز الطريفي
687
القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط
فكر مقالات

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد


ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا من أبناء هذه الأمة يتناولون القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بقراءة عرفت ب الحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص واللاهوتية منها خصوصا فلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه واستخداما لنظريات لغوية حديثة مثل: البنيوية والتفكيكية والسيمائية وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صر...

بقلم: الشيخ الدكتور محمد بن عبد الفتاح الخطيب
1928
الانغماس في حياة الغرب | مرابط
فكر

الانغماس في حياة الغرب


فبقدر ما تنغمس فيهم بقدر ما تصيبك لعنتهم دون أن تشعر فإما تتنازل عن قيمك وتتخلى عنها فتغوص في الرذائل.. أو تداهن وتوارب في قيمهم فتتورط في كوارث.. أو تنبهر بالتعليم واحترام الخصوصيات و و.. فتصير حاكمية الذوق الغربي أهم من حاكمية الدين ويصير فهم الدين بمعايير الإنسانية أهم من فهمه بمعايير أهل العلم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
432
بناء الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

بناء الإسلام


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه سريعا على بناء الإسلام ومهمة المسلمين الأولى ثم يناقش بناء الاجتماع من الناحية الاجتماعية ومن الناحية السياسية ويقف على الشاغل الأول الذي لا يجب أن يفارق رجال الإسلام وهو إنقاذ المجتمعات الإسلامية من أسباب ضعفها

بقلم: محمود شاكر
1756