ما تفعله الإنترنت بعقولنا

ما تفعله الإنترنت بعقولنا | مرابط

الكاتب: علي محمد علي

491 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إدمان التشتت

هناك موقف غريب يحدث مع الكثير منا.. أن تكون منشغلًا بقراءة مقال أو مشاهدة فيديو يعجبك، ومع ذلك تجد نفسك قد توقفت عن القراءة أو المشاهدة وقمت بإلقاء نظرة على أي شيء آخر؛ ربما الواتساب أو الفيسبوك مثلًا.. عادة ما تعود مرة أخرى لإكمال القراءة أو المشاهدة، ﻷنه كما قلنا أنت معجب بالمحتوى وترغب في إكماله! لكن يبقى السؤال هنا: إن كنت لم تشعر بالملل أصلًا، فما الذي جعلك تتوقف وتصرف انتباهك لأمر آخر؟

 

مؤلف كتاب The Shallows يقارن بين الإنترنت والكتب كوسائل لاكتساب المعرفة فيقول.. هيكلة الكتاب من حيث أنه عادة ما يغطي موضوع واحد بعمق، وأنه مرتب بشكل تسلسلي بحيث كل فكرة تنقلك لفكرة أعمق وأكثر تفصيلًا؛ هذه الهيكلة تدفعك وتساعدك على التركيز والتعمق في موضوع الكتاب.

 

بينما على الإنترنت الوضع مختلف.. إن كنت تقرأ مقالة على الإنترنت حتى لو كانت هذه المقالة عن التركيز؛ ستجد أن الصفحة التي تقرأ فيها مليئة بعشرات الروابط والأزرار التي تدعوك للضغط عليها للقيام بشيء آخر غير الاستمرار في قراءة المقالة!

 

المخ البشري فضولي جدًا ويحب التعرض لأشياء جديدة باستمرار.. وكل رابط موجود في الصفحة يعدك بشيء جديد مختلف عن الذي تقرأه أو تشاهده. الإنترنت لا تساعدك على التركيز والتعمق في شيء واحد.. بل العكس؛ تشجعلك على التشتت والتنقل السريع بين الصفحات.

 

أي أن الكتاب كأداة يدفعك للتعمق في موضوع واحد.. بينما الإنترنت تبقيك على السطح في مواضيع متفرقة.. قبل أن تبدأ في التعمق في أي شيء ستكون قد انتقلت لشيء آخر جديد. لو شبهنا الأمر ببحر.. فالكتاب يشجعك على الغوص في العمق. بينما الإنترنت تجعلك تتنقل في الأماكن الضحلة السطحية للمعرفة.

 

حتى عملية القراءة نفسها تختلف ما بين الإنترنت وبين الكتاب.. كثير مما نقرأه على الإنترنت قد يكون بلا قيمة أو قد لا تكون متأكدا بعد من كون ما تقرأه هذا سيفيدك أم لا، فكثير منا -بدون قصد- تعود على نوع من القراءة السريعة اسمه skimming مثل قراءة الجرائد.. حيث تقفز عيناك بين العبارات والفقرات وأحيانا تكتفي بالعناوين فقط، وبالتالي تركيزك وفهمك لما تقرأه يكون أقل.. مستوى فهمك وتركيزك يكون سطحي أو ضحل كما يصف الكتاب

 

لكن ما المشكلة في القفز والتنقل السريع؟

 

أي معرفة تطلع عليها تُحفظ أولًا فيما يسمى بالذاكرة قصيرة الأمد Short-term memory وبعدها تنتقل ببطء للذاكرة طويلة الأمد.. المعرفة المحفوظة في الذاكرة طويلة الأمد هي التي تبقى معك ويمكنك الاعتماد عليها لاحقًا في عملك وحياتك

 

مؤلف الكتاب يقول أن التركيز أو الانتباه هو الوسيلة التي تنقل بها المعرفة من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد.. التنقل السريع بين الموضوعات المختلفة لا يعطي الوقت الكافي لمخنا لنقل ما تعلمه للذاكرة طويلة الأمد وبالتالي تخسر الكثير مما تقرأ وتشاهد على الإنترنت

 

لو نظرت لأكبر الشركات التي تستخدم مواقعها وشبكاتها يوميًا مثل جوجل وفيسبوك وتويتر.. ستلاحظ مشكلة كبيرة جدًا، وهي أن المصدر الأساسي للربح في كل هذه الشركات هو الإعلانات.. وهذا يعني أن تلك الشركات لديها دافع قوي لجعلك تشاهد أكبر قدر من الإعلانات. فكلما عرضوا إعلانات أكثر للمستخدمين كلما كانت أرباحهم أكبر. ولذلك كثيرًا ما يوصف نشاط هذه الشركات باقتصاد جذب الانتباه Attention Economy

 

جوجل وفيسبوك ربما يقدمون لك خدماتهم بدون مقابل مادي مباشر.. لكن هذا لا يعني أنهم يقدمونها مجانًا وإنما يقدمونها مقابل جزء من تركيزك وانتباهك! هناك صراع محتدم بين كل تلك الشركات والمواقع للاستحواذ على تركيزك ووقتك لعرض أكبر قدر من الإعلانات.

 

إن كنت تقضي ساعة من يومك تقريبًا على يوتيوب.. فمن مصلحة يوتيوب أن تشاهد في تلك الساعة 20 أو 30 فيديو.. ﻷن هذا يقابله عرض عدد أكبر من الإعلانات وبالتالي ربح أكبر للشركة، فستجد الموقع يغريك دائمًا بمقاطع فيديو مقترحة في كل مكان.

 

ورغم كل ما قلناه على يوتيوب، إلا أنه أفضل حالا من باقي الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وانستجرام وتويتر. فلو كانت الattention span، أي فترة الانتباه، على يوتيوب تقدر بالدقائق، فهي على فيسبوك وانسترجام تقدر بالثواني! لو تأملت أي شخص أثناء استخدامه لهذه الشبكات.. ستجد أنه يحرك أصابعه عالشاشة كل عدة ثواني لكي يرى منشور جديد أو صورة جديدة.. هو فعليا لا يركز مع كل منشور ثوى ثواني معدودة!

 

أضف إلى هذا أن تلك المنشورات عادة ما تكون متنوعة جدًا.. ما بين ما هو ساخر، ديني، سياسي، رياضي، وهكذا.. نحن فعليا نجعل مخنا يقفز كل عدة ثواني بين موضوعات مختلفة تماما. ربما تسأل ما هي المشكلة في كل ما ذكرناه.. سواء عن الإنترنت عامة أو عن مواقع التواصل الاجتماعية

 

إدمان القشور

أول مشكلة: هي أن معظم المحتوى الذي نطلع عليه على السوشيال ميديا محتوى سطحي.. ولا أقصد هنا أنه كله تافه.. لكن حتى المحتوى المفيد عادة ما يُعرض لك منه هو قشور لا تبني أي معرفة حقيقية.. وإن كانت للأسف تعطي البعض وهم المعرفة.

 

التنقل السريع

ثاني مشكلة: هي أن التنقل السريع بين أفكار وموضوعات متنوعة يُصعّب على مخك الاحتفاظ بالمعرفة التي تطلع عليها.. أي أنه حتى عندما تصل لمحتوى مفيد متعمق.. مخك لن يمكنه الاستفادة منه بشكل مناسب.

 

التشتت وعدم التركيز

ثالث وأخطر مشكلة: هي أننا مع استخدامنا للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بهذا الشكل يوميًا، فنحن -بدون قصد- ندرب مخنا تدريب مكثف على التشتت وعدم التركيز.

 

نحن نقوي الدوائر العصبية لعادة التشتت وطلب الجديد بشكل مستمر.. وللأسف التشتت وضعف التركيز هذا ليس مقتصرا فقط على الوقت الذي تستخدم فيه الإنترنت ومواقع التواصل.. التشتت وعدم القدرة على التركيز يظلان معك عندما تعود إلى عملك ودراستك

بدون قدرة على التركيز لفترة معقولة.. سيكون من الصعب جدًا عليك أن تتعمق في أي موضوع أو عمل مهم.. صعب أن تتميز في عملك أو في دراستك.. صعب أن تحقق طموحاتك من أهداف ومشاريع شخصية.

 

لهذا أرى أنه بالرغم من أن إضاعة الوقت على الإنترنت مشكلة كبيرة.. إلا أنها ليست أكبر من مشكلة إدمان التشتت وضعف التركيز. ﻷنك حتى لو ضيعت نصف اليوم على الإنترنت وكان لا زال بإمكانك التركيز في عملك أو دراستك خلال باقي اليوم فغالبا ستتمكن من تحقيق قدر جيد من الإنجاز.. لكن بكل أسف هذا لا يحدث. فعند عودتك لعملك أو دراستك لن تستطيع التركيز لفترات طويلة بشكل يسمح لك بالإنجاز وإحراز تقدم ملحوظ.. سرعان ما ستشعر بالملل وتشعر بالحاجة لتلبية طلب المخ في التعرض لشيء مخلتف وجديد.. فتعود مرة أخرى للإنترنت أو الموبايل. ولو منعت نفسك من الرجوع للإنترنت ومواقع التواصل.. ستشعر بالرغبة في عمل أي شيء آخر لا يتطلب تركيزًا.. فتنهض من مكانك لتبحث عن شخص تتحدث معه أو تبحث عن شيء لتأكله أو أي شيء مختلف


الحقيقة أن إدمان التشتت يتخطى حاجز الشعور بالملل.. فمخك أصبح يدمن التشتت حبا في التشتت نفسه وليس فقط هروبًا من الملل! وهذا هو سبب الموقف الغريب الذي شرحته لك في أول الفكرة وهو أنك حتى لو كنت تقرأ أو تشاهد محتىو يعجبك ولا تشعر بأي ملل، فإنك تجد نفسك تتوقف رغم ذلك عن القراءة أو المشاهدة وتذهب لفعل أي شيء آخر ولو لعدة ثواني.. وكأن مخك كان يحتاج جرعة تشتت ليس إلا

 

المؤلف يقول أن بحثه في موضوع الكتاب بدأ أصلًا عندما لاحظ أن قدرته على التركيز أصبحت ضعيفة جدًا، وبعدما كان يعمل بتركيز لساعة أو اثنتين متواصلتين، أصبحت فترات تركيزه دقائق معدودة! فبدأ يبحث على الإنترنت عن سبب ضعف تركيزه ليقوده بحثه في النهاية إلى أن استخدامه للإنترنت نفسه هو السبب والعامل الرئيسي.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإنترنت
اقرأ أيضا
دور محمد علي الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

دور محمد علي الجزء الثاني


لقد لعب محمد علي دورا بارزا في إحكام السيطرة على الحالة الإسلامية في مصر وفي العالم الإسلامي بشكل عام عندما استطاعت فرنسا أن تحتويه وتوفر له كل الإمدادات اللازمة حتى يحقق أهدافها في بلادنا وكان على رأس هذه الأهداف الانفصال عن الدولة العثمانية والمساهمة في إضعافها بشتى الطرق والهدف الهام الثاني هو بداية التغريب وسحق الروح الإسلامية المتبقية وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على محاور هذا الموضوع كلها وما يتفرع عنها وما نتعلمه منها من دروس الهدف هنا أن ندرك ما حدث في بلادنا حتى نفهم كيف وصلنا إلى...

بقلم: محمد قطب
1998
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج1 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج1


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
505
شبهات حول الحجاب: الحجاب يمنع المرأة من التعبير عن نفسها | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب يمنع المرأة من التعبير عن نفسها


يقول بعض المنكرين والرافضين للحجاب: إن الحجاب هو عدو حرية المرأة وانطلاقها لتعبر عن نفسها إنه يجعل المرأة كخيمة متنقلة ويأسر جمالها ويمنعه من أن يعبر عن حيوية هذا الإنسان المبدع والحقيقة أن هذه شبهة حادثة في عصرنا وإليكم الرد عليها والجواب الكافي المبين لما تنطوي عليه من أباطيل وأخطاء

بقلم: سامي عامري
928
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1


من الكلمات الجميلة جدا يقول صلى الله عليه وسلم: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك تواضعا لك وتعظيما لك وتكريما وتبجيلا لك تقف لك الملائكة في الطريق هكذا لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علما انظر إلى عظم الأمر تغيرات كونية هائلة تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط بل تتواضع لك وتبجلك وتعظمك

بقلم: د راغب السرجاني
755
الباطل على درجات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الباطل على درجات


مقتطفات متفرقة لشيخ الإسلام ابن تيمية يبين فيها أن الباطل على درجات متفاوتة فبعض الفرض لديها من الباطل أقل من غيرها ويقاس ذلك بحسب قربهم أو بعدهم عن الحق فمثلا اليهودي أو النصراني أفضل من الملحد الذي لا يؤمن بإله وهكذا كلما اقترب السلم من الحق كلما كان أفضل فهناك باطل خير من باطل آخر وهناك باطل شر من باطل آخر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1835
أغلال المجتمع التقني | مرابط
اقتباسات وقطوف

أغلال المجتمع التقني


إن الانسان سيصبح مغلولا خلال سنين طويلة في المجتمع التقني لكنه لن يموت في الأغلال. فالمجتمع التقني يستطيع ابتداع الرفاهية لكنه لا يستطيع خلق الفكر. ومن دون الفكر لا توجد العبقرية. ومجتمع محروم من رجال عباقرة مجتمع محكوم عليه بالفناء

بقلم: قسطنطين جيورجيو
405