قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس

قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس | مرابط

الكاتب: د محمد عبد الله دراز

2115 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) قانونا السببية والغائية

 

أشرنا إِلى أن ظاهرة التدين تستند في أصلها إِلى مبدأين مرتكزين في بداهة العقول، وهما قانونا «السببية والغائية»، ونبادر الآن فنكرر أن هذين القانونين متى فُهِما على كمالهما انتهيا إِلى أسمى العقائد الدينية: عقيدتي التوحيد والخلود؛ وأن عقائد الشرك والوثنية والفناء إِنما هي وليدةُ ضربٍ من الغفلة أو الكسل العقلي يقف بها في بعض الطريق.

 

أما قانون السببية فيقرر أن شيئًا من «الممكنات» (1) «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإِحداث شيء»؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئًا لا يملكه هو، كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عددٌ إِيجابي، فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سببٍ خارجي، وهذا السبب الخارجي إِن لم يكن موجودًا بنفسه احتاج إِلى غيره، فلا مفر من الانتهاء إِلى سببٍ ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب.

 

وأما قانون الغائية فمن موجبه أن كل نظام مركب متناسق مستقر لا يمكن أن يحدث عن غير قصد، وأن كل قصد لا بد أن يهدف إِلى غاية، وأن هذه الغاية إِذا لم تحقق إِلا مطلبًا جزئيًّا إِضافيًّا منقطعًا، تشوفت النفس من ورائها إِلى غاية أخرى.. حتى تنتهي إِلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات.

 

نعم، إِن طاقة البشر، وطبيعة المخلوق، أعجزُ من أن تُحصي مراحل الأسباب والغايات مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم ونهايته؛ ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء وغاياتها الأخيرة، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطواتٍ معدودةً إِلى الأمام أو إِلى الوراء، تاركةً ما بعد ذلك إِلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.

 

ولكن هذا اليأس الإِنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقينٌ إِجماليٌّ ينطوي كل عقل على الاعتراف به طوعًا أو كرهًا، وهو أنه مهما طالتْ سلسلةُ الأسباب الممكنة والغايات الجزئية، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية؛ فإِنه لا بد لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إِثبات شيءٍ آخرَ يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإِلا لَبقيت كل هذه الممكنات في طَيِّ الكتمان والعدم، -إِن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل- أو لَبقيت لغزًا وعبثًا غير معقول -إِن لم تكن لها غايةٌ تامةٌ تنقطع بها لجاجة النفس ويستقر مضطربها.

 

نقول: إِن وجود هذه الحقيقة الأولى والأخيرة ضرورةٌ عقليةٌ لا مناص من التسليم بها، ولا مجال لأحد أن يكابر فيها متى فكر قليلًا في الوضع الذي يئول إِليه إِنكارها، اللهم إِلا إِذا فرضناه كائنًا أخرق، لا يُذعن لقواعد المنطق والحساب، ولا يبالي أن يبطل كل شيء في الأذهان.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التعبير المشهور هو أن شيئًا لا يحدث من لا شيء، وقد أضفنا عبارة: «من الممكنات» تحديدًا للمجال الحقيقي الذي يُطبق فيه هذا المبدأ، ودفعًا للخطأ الذي يَنجم من أخذه على إِطلاقه؛ ذلك أن الأُمور «الضرورية الوجود» -ككون الكل أكبر من جزئه، وكون الشيء عين نفسه، وأن ضم الواحد إِلى الواحد ينشأ عنه اثنان وضم الصفر إِلى الصفر لا يخرج منه عدد إِيجابيٌّ، إِلى غير ذلك من أحكام قانون العينية- تحمل في طبيعة مفهومها سبب وجودها، فهي موجودة بنفسها لا بسبب خارجيٍّ، والأمور «المستحيلة»- ككون الجزء أكبر من كله، وكون الشيء غير نفسه أو عين غيره، إِلى أشباه ذلك من أحكام قانون التناقض - تحمل في نفسها سبب عدمها؛ فلا تقبل الوجود بنفسها ولا بغيرها، أما «الممكنات» التي تقبل الوجود والعدم ولا تقتضي طبيعتها واحدًا منها، فإِن وجودها إِنما يرد إِليها من سبب خارج عنها حتمًا؛ إِذ لو وُجِدَتْ بنفسها لكانت واجبة الوجود، وهو خلاف المفروض.

 

المصدر:

  1. د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص105
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الإنسانية في أصدق معانيها | مرابط
فكر

الإنسانية في أصدق معانيها


فالعالم العالم بحجة الشرع والقوي قوي بالله والمرحوم مرحوم بالتسليم والطاعة والغني غني بالافتقار إلى الله والواصل واصل بتدبير الله.. فمن جعل الإنسانية دينا جعل الإنسان إلها على الحقيقة! أي إنسانية يدعون إليها؟!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
349
مسالك الهوى الخفي | مرابط
مقالات

مسالك الهوى الخفي


افرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له. أيكون نظرك إليهما سواء لا تبالي أن يتبين منهما بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته؟. افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما أحدهما يوافق قولا لإمامك والآخر يخالفه. أيكون نظرك فيهما سواء لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟.

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
279
قصص وعبر للنساء ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج2


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
406
الخطاب باللغة العربية | مرابط
لسانيات

الخطاب باللغة العربية


وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه كما تقدم.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
418
باب الشهوة: تعس عبد الدرهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

باب الشهوة: تعس عبد الدرهم


والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله رائدا غير الله ساهيا عن ذكره قد اشتغل بغير الله قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
438
لم نفعلها وحسبت علينا | مرابط
فكر مقالات

لم نفعلها وحسبت علينا


حين يقف الإنسان في اليوم الآخر لحظة تسليم الصحائف والاطلاع على محتوياتها فإن الإنسان ربما لن يتفاجأ كثيرا من خطايا نفذها فعلا وقام بها فهو قد علم مسبقا بأنه سيراها في صحيفته ولكن المفاجأة المذهلة أن يجد الإنسان في صحيفته خطايا لم يفعلها هو ومع ذلك يجدها مدونة في كتاب أعماله ربما يجد الإنسان في صحيفته خطايا لعشرات الأشخاص بل ربما لمئات الأشخاص بل ربما لملايين الأشخاص وكلها محسوبة في صحيفة سيئاته وسيحاسبه الله عليها

بقلم: إبراهيم السكران
1326