ظاهرة الليبراليين الفقهاء

ظاهرة الليبراليين الفقهاء | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1809 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ضرورة النظر إلى حال المفتي

ليس من الضرورة في الواقع أن يكون المفتي ولا بدّ [عالمًا مجتهدًا ورعًا تقيًّا] كما هو الوصف الشرعي للمفتي، فقد يكون كذلك، وقد يكون على شاكلة أخرى، وهذا ما يحتّم على المستفتي واجب البحث والتدقيق في العالم الذي يأخذ عنه وفي الفتيا التي يعمل بها، فالمنهج الشرعي يقوم على [إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم] وليس على كيفية [دع بينك وبين النار مطوع]!

في جعبة التاريخ الكثير من المفتين الذين أنزلوا الفتيا من عليائها لتكون موطئًا لشهواتهم الدنيّة، ولكلّ شهوة من شهوات الدنيا في سجل التاريخ الكثير من الفتاوى والمفتين.
عرفنا في التاريخ [مفتي البلاط السلطاني] الذي يوقّع عن الله بما يريده (الحاكم)، فمراد الحاكم لا بدّ وأن يكون على وفق مراد الله، فإن مال الحاكم عن مراد الله فلا بدّ أن يميل (المفتي) بأحكام الشريعة لتكون على مراد الحاكم ..
 

نماذج من التاريخ: الشهوات والفتوى

ومن نوادر ما يذكر هنا: أن الخليفة الأموي (يزيد بن عبد الملك) لما بايعه الناس بعد وفاة الخليفة الأموي الراشد (عمر بن عبد العزيز) رحمه الله: أراد أن يسير على ما سار عليه عمر فاجتمع إليه جمع من المفتين الذي حلفوا له بأغلظ الأيمان أن الخليفة مرفوع عنه قلم التكليف ويدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، فتراجع يزيد عن سيرة عمر بتلك الفتيا!

وللصداقة والزمالة شهوة تدفع بالفتيا إلى حيث يريد الأصدقاء، كما حكى العلّامة المالكي أبو الوليد الباجي عن أحد المفتين حين جاءه سائل يسأله عن حكم فقهي فأجابه بوجهٍ من أوجه الفقه المالكي فيه شدّة وعزيمة، فجاء من الغد أحد أصدقائه يشكو إليه ما وجد من شدّة هذه الفتيا، فتأسّف المفتي وتحوقل وقال: [كنتُ أن هذه الفتيا لغيرك، لو كنت أدري أنها لك لأفتيتك بالوجه الآخر من المذهب]!

وحتّى الثمالى السكارى لهم في الفتيا أخبار وآثار .. فقد وقف شاعرهم مفتيًا رفقاء الدرب مزيلًا أي شبهة قد تعرض طريق أحدهم أو وخز ضمير قد يرديه عن طريق النشوة فقال:

-دع المساجــد للعبّاد تعمرهــــا -- وامضِ إلى حانة الخمّار واسقينا
ما قال ربّك ويل للأولي سكروا --- بل قـال ربّك ويل للمصـلينـا.

ويطمئن آخرُ رفقاءَ الدرب بأن تحريم الخمر ليس حكمًا مصمتًا لا يقبل الخلاف كما يشيعه الرأي الفقهي السائد، بل ثمّة رؤية فقهية (تنويريّة) مستمدّة من كلام الفقهاء تجعل المسألة فقهية خلافيّة:

- أحل العراقيُّ النبيذَ وشربـَه --- وقــال حرامان المدامة والخمر
وقال الحجازي الشرابان واحد --- فحلّت لنا بين اختلافهما الخمر.

فالعراقي (أبو حنيفة) يرى أن شرب القليل غير المسكر من النبيذ جائز، والحجازي (مالك) يرى أن النبيذ كالخمر، فأخذ هذا المفتي برأي أبي حنيفة في جواز شرب النبيذ، وأخذ برأي مالك في عدم الفرق بين النبيذ والخمر، فخلص إلى جواز الخمر!

وآخرُ من [ مجتهدي المحششين] يخوض في العلل والمعاني التي حرّم من أجلها الخمر، فيجعل الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، فالعلة هي الضلالة عن الهدى، فإن وجدت حرم الخمر وإلا فلا:

-إذا لم يكن سكر يضلّ عن الهدى --- فسيّان ماء في الزجاجة أو خمر!.

وقد تجاوز أمر أولئك المفتين إلى مناكفة الأئمة الكبار بالاعتراضات والإيرادات الفقهية الساخطة على فتاوى الفقهاء .. كمثل ذاك الرجل الذي طلّق زوجته البتّة، فأتى العالم الربّاني (ابن أبي ذئب) يستفتيه فأفتاه بأن زوجته قد بانت منه بهذا الطلاق، فغضب الرجل، وأفتى لنفسه ببطلان هذا الفتيا وقال:

-أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه عنده --- فطلّق حتى البتّ بتت أنامله.
أطلّق بفتوى(ابن ذئب) حليلتي --- وعند ابن ذئب أهله وحلائله.

فقد كان الواجب على (ابن أبي ذئب) أن يطلّق زوجته قبل أن يفتي الرجل بطلاق زوجته حتى يتخلّص من هذا الاعتراض الفقهي الراقي!


كلّ ما سبق ينبئك أن الانحراف في الفتيا واتخاذها ذريعة للشهوة والعبث وتحليل ما حرّم الله لم يكن سلوكًا حديثًا ونازلة جديدة، بل هو منعرجٌ قديم مشت عليه أقدام الزائغين على اختلاف مشاربهم وغاياتهم، ولكلّ شهوة نماذج من الفتاوى التي تطبّعها دينيًا لتزيل عنه وخز الضمير وتأنيب النفس.

 

نموذج المفتي الليبرالي

وإذا كان للغابرين في هذا حكايات، فإن [للمفتين الليبراليين] و [الفقهاء الصحفيين] ألف حكاية وحكاية، وتلك الفتاوى الطريفة السابقة تبدو كسرابٍ أمام محيطات العبث الليبرالي المعاصر بالفقه والفتيا الشرعيّة!

لم تكن تلك الفتاوى تساق إلا للتندّر والاستطراف بما فيها من مخالفة للمنطق والعقل والشرع، ولم تكن سلوكًا عامًّا أو منهجًا مطّردًا لفئة معلومة من الناس، بل إن ظاهر سياقها أن قائلها وسامعها هم أعرف الناس بما فيها من كذب وغشّ وخداع .. غير أن الفقهاء الليبراليين وهم يمارسون الفتيا ويتعاملون مع الأحكام الفقهية يتعاملون بها تعامل الندّ بالندّ وبكيفية تكافئ الرؤوس، بفتاوى تطير على رؤوس الأشهاد ويتحدّث عنها الصاحي والنائم ..

ومن طريف أمر فقهائنا الليبراليين أنهم حين يلجون مسائل الدين القطعية وأصول الإسلام الكليّة يتعاملون معها بنسبية الحقيقة وتعدّد التفسيرات ورفض الوصاية وقبول كافة الاجتهادات مما يغيب معه حقّ واحد واضح في هذه القطعيات.

وحين ينزلون إلى المسائل [الفروعية الفقهية الاجتهادية] يتعاملون معها بوثوقية عالية وقطعية جازمة وحسم تام يرمي كلّ من يشكّك في بعض حيثيات الحكم بالتشدّد والانغلاق والفهم البليد!

لستُ أدري حتى ساعتي هذا سرَّ مواصلة الأقلام الصحفية على احتراف الفتيا وممارسة الفقه في كتاباتهم الصحفيّة، وهم يستشعرون جيّدًا مستوى قبول الرأي الشعبي لهم خاصّة في مسائل الفتيا الدينية، فمن البلاهة أن يتصوّر أحد أن ثمة من يترك فتاوى [ اللجنة الدائمة] و [ابن باز] و [ابن عثيمين] أو [الهيئات الشرعيّة] ليبحث عن الفتوى في مقالة صحفيّة لا يعرف الناس من حالهم إلا ما يزيدهم ريبة وحذرًا و[المتخصّص] لن يجد في تلك المقالات إلا الخلط وسوء الفهم والمخالفة لأبسط أبجديات القراءة الفقهية، فإلى من تصدّر تلك الفتاوى؟

ليس هذا مجال الخوض في أصول الفقه الليبرالي المعاصر، وقواعد الفتيا الصحفية الفقهية، فللموضوع حديث ماتع ونماذج طريفة لا أريد أن أضعها جميعًا هنا فأحمّل الضحكة والبسمة ما لا تحتمل ..

في حفظ الله.

 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/Doat/alajlan/16.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
نحن مثلكم ننتقد الدين | مرابط
فكر مقالات

نحن مثلكم ننتقد الدين


في عالمنا الإسلامي -العربي منه وغير العربي- مخلوقات غريبة تريد أن تجمع بين المتناقضات ولا تريد مع ذلك أن يعترض على تناقضها معترض يريدون أن يقولوا لإخوانهم الذين كفروا من أهل الغرب: إنما نحن مثلكم ننتقد الدين كما تنتقدون ولا نلتزم به كما أنكم لا تلتزمون ولا نترك فرصة للسخرية منه ومن المستمسكين به إلا اهتبلناها كما تهتبلون ونرى كما ترون أنه من حق الأديب والفنان أن ينتقد قيم المجتمع ومعتقداته ويدعو إلى نبذها لأنه لا يكون أديبا أو فنانا مبدعا إلا إذا فعل كل هذا بحرية كاملة كما تفعلون

بقلم: الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس
674
الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة | مرابط
النسوية المرأة

الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة


قرأت مقالا لإحدى النساء تضع فيه مقتطفات من محاضرة للدكتورة هبة رؤوف عزت تذم فيها انشغال النسوة بأعمال البيت المعقدة صناعة المحشي في المثال وتحاكمهن لمجتمع الصحابيات الذي كان مشغولا بالحياة العامة وتضرب الأمثلة على وظائف خير النساء ففلانة خطيبة وفلانة تاجرة وعائشة متعددة الوظائف وهكذا. وقد أحببت أن أكتب ردا بالغ الإيجاز لا تمكث في تحريره ولا تأن في بحثه فليعتبره القارئ مجرد اعتراض مختصر.

بقلم: عمرو عبد العزيز
754
الزهد المشروع | مرابط
مقالات

الزهد المشروع


سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله وساح في أرض الله والبلدان فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
290
ما هو البديل ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ما هو البديل ج1


سؤال ما هو البديل هو أحد أشهر الأسئلة التي ترد عند الاحتساب على منكر معين فيأتي حينها المطالبة بإيجاد بديل مناسب يحل محل المنكر الذي ينهى عنه وهو سؤال مشروع وإيجابي في الجملة ولكن في أغلب الأحيان ينطوي على إشكاليات كثيرة وأباطيل لا بد من الوقوف عليها وهذا ما يقدمه المقال الذي بين يديكم

بقلم: فهد بن صالح العجلان وعبد الله العجيري
1064
أدلة النبوة: أساس اليقين | مرابط
تعزيز اليقين

أدلة النبوة: أساس اليقين


أدلة النبوة هي أساس اليقين ولهذا كثرت وتنوعت لأن من سنة الله تعالى كثرة أدلة المطالب الكلية رحمة بالعباد وتيسيرا لهم لسلوك طريق الرشاد

بقلم: د. عيسى السعدي
292
آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي | مرابط
فكر مقالات العالمانية

آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي


مثلت العالمانية علامة فارقة في تاريخ الغرب إذ نقلته من عصر السلطان الكنسي إلى عصر سلطان العالم المادي والفجوة بين العصرين هائلة حتى لا يكاد يربط الزمن الأول بالزمان الآخر كثير لكنهما يشتركان في التيه بعيدا عن حقيقة الإنسان وجوهر حاجته إلى ما يروي غلته والنظر عن كثب في حال الغرب المتعلمن في زمن ما بعد الحداثة يكشف أن الآلة الدعائية الخارجية للغرب وآلة التجميل لأقنانه في بلاد المسلمين قد نقلا عن عمد صورة تكاد تكون عديمة الصلة بالعالمانية الغربية وأدوائها القاتلة

بقلم: د سامي عامري
2476