دلالة الدقيق من الخلق على الله

دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط

الكاتب: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

2913 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

دلالة الدقيق من الخلق على الله مقال من كتاب الحيوان للجاحظ

 

أوصيك أيها القارئ المتفهم، وأيها المستمع المنصت المصيخ، ألا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته، ولا تستصغر قدره لقلة ثمن. ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة، ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان. وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله.


ولم تفترق الأمور في حقائقها، وإنما افترق المفكرون فيها، ومن أهمل النظر، وأغفل مواضع الفرق، وفصول الحدود. فمن قبل ترك النظر، ومن قبل قطع النظر، ومن قبل النظر من غير وجه النظر، ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات، ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر، واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا.

 

فهذه الخصال هي جماع هذا الباب، إلا ما لم نذكره من باب العجز والنقص، فإن الذي امتنع من المعرفة من قبل النقصان الذي في الخلقة باب على حدة.


وإنما ذكرنا باب الخطأ والصواب، والتقصير والتكميل. فإياك أن تسيء الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق، ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين، أو لأنه قليل النفع والرد؛ فإن الذي تظن أنه أقلها نفعا لعله أن يكون أكثرها ردا، فإلا يكن ذلك من جهة عاجل أمر الدنيا، كان ذلك في آجل أمر الدين. وثواب الدين وعقابه باقيان، ومنافع الدنيا فانية زائلة؛ فلذلك قدمت الآخرة على الأولى.

 

فإذا رأيت شيئا من الحيوان بعيدا من المعاونة، وجاهلا بسبب المكانفة [1] ، أو كان مما يشتد ضرره، وتشتد الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدبر، فاعلم أن مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى. ومن جهة ما أعد الله عز وجل للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أن الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلها شر صرف أو خير محض؛ فإن ذلك لا يكون إلا بالمزواجة بين المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذ، والمحقر والمعظم، والمأمون والمخوف.

 

فإذا كان الحظ الأوفر في الاختبار والاختيار. وبهما يتوسل إلى ولاية الله عز وجل، وآبد [2] كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار الممزوجة من الخير والشر، والمشتركة والمركبة بالنفع والضر، المشوبة باليسر والعسر- فليعلم موضع النفع في خلق العقرب، ومكان الصنع في خلق الحية، فلا يحقرن الجرجس [3] والفراش والذر والذبان ولتقف حتى تتفكر في الباب الذي رميت إليك بجملته، فإنك ستكثر حمد الله عز وجل على خلق الهمج والحشرات وذوات السموم والأنياب، كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنسيم.


فإن أردت الزراية والتحقير، والعداوة والتصغير، فاصرف ذلك كله إلى الجن والإنس، واحقر منهم كل من عمل عملا من جهة الاختيار يستوجب به الاحتقار، ويستحق به غاية المقت من وجه، والتصغير من وجه.

 

فإن أنت أبغضت من جهة الطبيعة، واستثقلت من جهة الفطرة ضربين من الحيوان: ضربا يقتلك بسمه، وضربا يقتلك بشدة أسره [4] لم تلم. إلا أن عليك أن تعلم أن خالقهما لم يخلقهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبر على أذاهما، ولأن تنال بالصبر الدرجة التي يستحيل أن تنالها إلا بالصبر.

والصبر لا يكون إلا على حال مكروه. فسواء عليك أكان المكروه سبعا وثابا، أو كان مرضا قاتلا، وعلى أنك لا تدري لعل النزع [5] ، والعلز [6] والحشرجة، أن يكون أشد من لدغ حية، وضغمة [7] سبع. فإلا تكن له حرقة كحرق النار وألم كألم الدهق [8] ، فلعل هناك من الكرب ما يكون موقعه من النفس فوق ذلك.


وقد عمنا أن الناس يسمون الانتظار لوقع السيف على صليف [9] العنق جهد البلاء؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذع النار، ولا من شكل ألم الضرب بالعصا.


فافهم فهمك الله مواقع النفع كما يعرفها أهل الحكمة وأصحاب الأحساس الصحيحة.

 

ولا تذهب في الأمور مذهب العامة، وقد جعلك الله تعالى من الخاصة، فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنها لم تجعل لعبا، ولم تترك هملا. واصرف بغضك إلى مريد ظلمك، لا يراقب فيك إلا ولا ذمة، ولا مودة، ولا كتابا ولا سنة. وكلما زادك الله عز وجل نعمة ازداد عليك حنقا، ولك بغضا.

 

وفر كل الفرار واهرب كل الهرب، واحترس كل الاحتراس، ممن لا يراقب الله عز وجل؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون لا يعرف ربه مع ظهور آياته ودلالاته، وسبوغ آلائه، وتتابع نعمائه، ومع برهانات رسله، وبيان كتبه؛ وإما أن يكون به عارفا وبدينه موقنا، وعليه مجترئا، وبحرماته مستخفا.

 

فإن كان بحقه جاهلا فهو بحقك أجهل، وله أنكر. وإن كان به عارفا وعليه مجترئا فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيع ولأياديك أكفر.

 

فأما خلق البعوضة والنملة والفراشة والذرة والذبان والجعلان، واليعاسيب والجراد- فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذرء [10] ؛ فربت أمة أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رؤوسها الذر، وأهلكت بالفأر، وجردت بالجراد، وعذبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذبان، فهي جند إن أراد الله عز وجل أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبرهم وعتوهم؛ ليعرفوا أو ليعرف بهم أن كثير أمرهم، لا يقوم بالقليل من أمر الله عز وجل.

 

وفيها بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، وصلاج لمن استبصر، وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصبر والفكرة. وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة.

 


 

  1. المكانفة: المعاونة «القاموس: كنف».
  2. آبد: دائم «القاموس: أبد».
  3. الجرجس: البعوض الصغار «القاموس: جرجس».
  4. الأسر: الشد والعصب وشدة الخلق والخلق «القاموس: أسر».
  5. يقال: هو في النزع: أي قلع الحياة «القاموس: نزع».
  6. العلز: هلع يصيب المحتضر «القاموس: علز».
  7. الضغمة: العضة «القاموس: ضغم».
  8. الدهق: خشبتان يغمز بهما الساق «القاموس: دهق».
  9. صليف العنق: عرضه «القاموس: صلف».
  10. الذرء: النسل والخلق «القاموس: ذرأ».
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاحظ
اقرأ أيضا
هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات أبحاث

هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟


نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة ليس نهيا مطلقا ولكنه متعلق بعلة علم ذلك من النصوص الصحيحة الأخرى التي أباح فيها النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة وكذلك نهى بعض الصحابة عن التدوين كان لنفس العلة علم ذلك من سماح بعض الناهين عن التدوين بالتدوين في بعض الأحيان التي أمنوا فيها وقوع العلة بل وقيامهم هم أنفسهم بذلك وكذلك من مواقف الصحابة الآخرين الذي كانوا يبيحون التدوين ويحثون عليه.

بقلم: معتز عبد الرحمن
325
نشوء دولة التتار ج2 | مرابط
تفريغات

نشوء دولة التتار ج2


في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة

بقلم: د راغب السرجاني
691
نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس


وكنت أخبرتك أن سيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية -أيده الله وأحسن إليه- أوصاني مرة في سنة ثلاث وسبعمائة وصية بليغة حفظت منها قوله: لا تقصد رضا الناس بأقوالك ولا أفعالك: فإن رضا الناس غاية لا تدرك اليوم إن ترض الناس يشكروك وفي غد تسخطهم يذموك

بقلم: ابن الحبال البعلي
749
الكلام الممدوح والمذموم عند ابن تيمية | مرابط
أبحاث

الكلام الممدوح والمذموم عند ابن تيمية


يقول ابن تيمية: والسلف لم يذموا جنس الكلام فإن كل آدمي يتكلم...فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل وهو المخالف للشرع والعقل. تأمل قوله كل آدمي يتكلم لتعلم أنه أراد التفريق بين مطلق الكلام وبين الكلام بالمعنى الاصطلاحي.فلا تفهم أنه أراد أن الكلام بالمعنى الاصطلاحي ليس كله مذموم بل أراد أن الكلام بالمعنى الاصطلاحي نوع يدخل هو وغيره في جنس أعم فكل آدمي يتكلم وليس كل كلام في هذا الجنس الأعم مذموم بل الذم متنزل على نوع من الكلام علم الكلام.

بقلم: ناصر آل متعب
1173
الدفاع عن السنة الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الدفاع عن السنة الجزء الثاني


النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان جاء النبي فخالف كثيرا من أعراف العرب وأهواء الجاهلية ولذلك رموه عن قوس واحدة وجاء يقول لهم: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها وقتلت أشراف الناس فيها وسبيت النساء وكان العرب أصحاب غيرة إذا هم فهموا معنى: لا إله إلا الله وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

بقلم: أبو إسحق الحويني
618
مش متدين لكنه طيب | مرابط
أباطيل وشبهات فكر تفريغات

مش متدين لكنه طيب


يناقش الدكتور إياد قنيبي العبارة الرائجة على ألسنة عوام الناس فلان مش متدين لكنه طيب في محاولة لتوضيح مفهوم التدين وكيف أنه يشمل كل خلق حميد وكل صفة حسنة وأن على المسلمين التحلي بكل هذه الصفات وإدخالها في مفهوم التدين لديهم وعدم حصره في بعض الشعائر والمظاهر فقط

بقلم: د إياد قنيبي
2113