بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

275 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

في الغرب يتحدثون عن "حقوق المرأة" في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري، ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان "صناعة الأنوثة" جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها، لم يعد يُكتفى بتشيؤ هذا الجسد (أي تحويلها إلى شيء) إنما جعله في خدمة الشيء، حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

وتبلغ عملية التنميط ذروتها عندما يفرض نموذج للجسد يستحيل تحقيقه..فعمليات التنحيف التي يخضع لها هذا الجسد بالرياضة والحمية، إضافة إلى عمليات التجميل المكثفة قد أوصلت بعض العارضات إلى حافة الموت، مثلما حصل مع العارضة البرازيلية أنا نيكول رستون (18 سنة) التي توفيت عشية مهرجان عرض الأزياء بباريس، بسبب نظام حمية صارم (وزنها 40 كلغ وطولها 1.74م) مما حمل الجهات المسؤولة في إسبانيا على منع مشاركة عارضات يقل وزنهن عن نحو 50 كلغ، وقد سبق لدراسة نشرتها الجمعية الطبية البريطانية أن بينت أن نسبة الدهون لدى العارضات والممثلات تتراوح بين 10% و15% بينما المعدل عند النساء في صحة جيدة يتراوح بين 22 و26%

ثم يضيف الأستاذ المرابط قائلًا: إن صناعة الأنوثة (تروج) لجسد متخيل لا صلة له بالواقع، فيمارس على المرأة سلطة قاهرة لا حيلة لها في ردها أو دفعها. إنه شكل من أشكال الاستبداد، الذي أسميه بالاستبداد الناعم مقابل الاستبداد الكثيف أو الصلب. فإذا كان الاستبداد الكثيف عملية تتم من الخارج من خلال الإنسان وضبطه ومراقبته وإرغامه وحبس أنفاسه، فإن الاستبداد الناعم عملية تتم من الداخل من خلال الامتثال الطوعي لمعايير ونماذج تم غرسها وتثبيتها بواسطة الثقافة الرمزية.

ثم يذكر الأستاذ المرابط بعض الأرقام التي تعكس حجم الأغلال التي ترفل فيها المرأة، وتكشف أيضًا عن أساليب الاستبداد الناعم الذي يأسر المرأة ويستعبدها، فيشير إلى تضاعف الاستثمارات في صناعة العطور النسائية وأدوات التجميل في فرنسة ثم يضيف قائلًا: إن تنوع وانتشار وسائل التجميل يعكس حجم الهوس الذي يسكن المرأة: فمن اللباس إلى الأصباغ مرورا بجراحات التجميل وتفنيات الحمية، كلها وسائل تتسارع لمقاومة آثار الزمن على الجسد وإخفائها وتغيير عيوب الخلقة، ليبدو هذا الجسد أكثر جاذبية وإغراض.

فالمرأة حسب ليبوفتسكي في ظل هذه الثقافة تقدم للنظر، إنها ديكور لتزيين فضاءات الرجل، فالجسد أصبح مادة أولية كالعجيبة التي تستعمل لتشكل ما يرغب فيه الإنسان من أحجام وأشكال، أو كاللوحة التي يستعملها الفنان للاشتغال عليها بصباغته لإنتاج رسومات وألوان تسر الناظرين. إن الجسد/النموذج لا يقدم كما هو، بل يتم تغليفه بشكل جذاب، كما تغلف الهدايا، ثم إنه يتم توريته وراء حجاب المساحيق وتحويرات الجراحة التجميلية.

إن أكبر عدو لهذا الجسد/النموذج هو الزمن، لأن آثاره تؤذن بانتهاء صلاحيته، لذلك تعمل صناعة الأنوثة ما في وسعها لابتكار أسلحة مقاومة ضد فعل الزمن، فبالإضافة إلى المساحيق والمواد التجميلية المتنوعة التي تعمل على التمويه من خلال عمليتي الإخفاء والإظهار، هناك العمليات التجميلية التي تخضع هذا الجسد للشد والجذب والقطع والزرع.

ويورد الأستاذ المرابط في دراسته بعض الإحصائيات عن عمليات التجميل فيقول: في عامي 1981 و1989 بلغت العمليات الجراحية التجميلية نحو 80% وهو ما يقدره بعضهم بـ: 1.5 مليون عملية في السنة، ومنذ 1960 تضاعف عدد المختصين 5 مرات، وفي فرنسة تضاعف مرتين خلال عشر سنوات، ففي أوربة يبلغ إجمالي سوق الجراحة التجميلية نحو 1.5 مليار يورو خلال سنة 2006، ومن المنتظر أن ينمو بنسبة 14% سنويا حتى 2010. أما في الولايات المتحدة فيقدر عدد العمليات خلال سنة 2002 بـ 1.6 مليون عملية، وف بريطانية سًجل نمو في هذا الميدان منذ سنة 1995 بـ 10% كل سنة، ويقدر سوق الجراحة التجميلية بنحو 250 مليون يورو حسب موقع البي بي سي.

ثم يشير بعد ذلك إلى تقنيات التنحيف أو الحمية، فيصفها بأنها تخضع الجسد لظروف جد قاسية ليستجيب لشروط الجسد النموذجي.. وقد "نشرت الجمعية الطبية البرطانية تقريرا في الموضوع، حيث دق ناقوس الخطر بتسجيله الفروقات المتنامية بين الجسد/المثال، الذي تبشر به وسائل الإعلام ومؤسسات الموضة، وبين الجسد/الواقع، مما يدفع المرأة إلى الانخراط في عملية نحت جسدها وإعادة ترسيمه ليتناسب والنموذج، متوسلة بكل الوسائل التي تبتكرها صناعة الأنوثة".. لقد أسرت مؤسسة صناعة الأنوثة المرأة واختزلتها في جسدها، وتبرز مؤسسة الموضة، إحدى أهم مؤسسات صناعة الأنوثة، بوصفها أخطر وسيلة ابتكرها الإنسان لاستلاب المرأة وتشييئها.

إن مؤسسة الموضة تكشف لنا أن المرأة غير موجودة لذاتها، أي كائنا طبيعيا (بيوثقافي) إنما كائنا اصطناعيا متخيلا تمت هندسته في الذهن


المصدر:
عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج ص138

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحرير-المرأة #حضارة-الجسد
اقرأ أيضا
شؤم إنكار السنة | مرابط
تعزيز اليقين

شؤم إنكار السنة


من شؤم إنكار السنة: عدم القدرة على إقامة فرائض الدين الكبرى التي أمر الله بها في القرآن كالصلاة والزكاة والحج إذ إن تفصيلاتها وحدودها وأركانها وواجباتها إنما اتضحت عن طريق السنة.ومن جمال إثبات السنة: وضوح العبادات العملية والقدرة على أدائها ببرهان ويقين ووضوح.

بقلم: أحمد يوسف السيد
240
مكانة المرأة في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات المرأة

مكانة المرأة في الإسلام


روى الترمذي في سننه من حديث أم عمارة - رضي الله عنها - أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما الأحزاب: 35

بقلم: د أمين بن عبدالله الشقاوي
1677
اتباع رخص المذاهب | مرابط
اقتباسات وقطوف

اتباع رخص المذاهب


مقتطف من كتاب الموافقات للإمام الشاطبي يعلق فيه على ما يفضي إليه تتبع رخص المذاهب وجمعها من فساد الدين والانسلاخ عن اتباع الأمر المنزل الثابت في الوحي بل وترك اتباع الدليل كلية والاكتفاء بالرخص والاستهانة في النهاية بأمر الدين كله

بقلم: الإمام الشاطبي
1866
التجديد في أصول الفقه؟ | مرابط
تفريغات

التجديد في أصول الفقه؟


بعض المدارس اليوم تقول: التجديد في أصول الفقه ويقولون ما شأننا بقواعد أصول الفقه التي سار عليها الإمام الشافعي فقد مر عليها أكثر من ألف سنة نحن نضع قواعد للفهم تتناسب مع العصر الحاضر أو بعبارة أخرى نحن نريد هدم القواعد التي سار عليها السلف ليست قضيتهم وضع قواعد بالعكس هم يريدون الأمر كما يقولون: قدسية النص وحرية القراءة.

بقلم: عامر بهجت
426
إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل | مرابط
مقالات المرأة

إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل


يمكن للمرأة أن توفق بين عملها خارج المنزل ودورها كزوجة وأم.. ليس بالضرورة أن يحدث تعارض أو أن يجور دورها تجاه العمل عن دورها تجاه البيت الزوج المتفاهم والمحب لزوجته سيساعدها في ذلك وبهذا يضحي أحدهما ليقوم الآخر بما يحب... أنانية أي طرف ستضر بالعلاقة.

بقلم: أحمد جلال
387
حجاب المرأة.. وإظهار الزينة | مرابط
المرأة

حجاب المرأة.. وإظهار الزينة


ومن الأفعال التي تلعن المرأة عليها إظهار زينتها كذهب أو لؤلؤ من تحت نقابها وتطيبها بطيب كمسك إذا خرجت. وكذا لبسها عند خروجها كل ما يؤدي إلى التبهرج كمصوغ براق وإزار حرير وتوسعة كم وتطويله فكل ذلك من التبهرج الذي يمقت الله عليه فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه القبائح الغالبة عليهن قال عنهن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء

بقلم: ابن حجر الهيتمي
283