بين الأصل والاستثناء

بين الأصل والاستثناء | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2107 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تأمّلوا معي – إخوتي وأخواتي- في النماذج التالية وهي نماذج شائعة في أوساطنا الثقافية:


1- إذا دخلت الزوجة في الإسلام، وما يزال زوجها باقٍ على كفره،  فلا يجب عليها مفارقته لأن المحرّم هو ابتداء النكاح مع الكافر وليس استمراره، لأنّ سيؤدّي إلى ترك المرأة للإسلام.
2- حرية الرأي مكفولة في النظام السياسي فمن حقّ أي أحد أن يعبّر عن أي رأي مهما كان ما دام أنه لم يعتدِ فيه على أحد لأننا لا نستطيع أن نمنع الآراء،  ولو أردنا المنع فالخاسر هو الإسلاميون.
3- الحجاب ليس واجبًا على المرأة لأنّه يسبّب لها عددًا من المضايقات والاعتداءات المختلفة.

 

ستلاحظون معي وجود فجوة منهجية ظاهرة في سياقات هذه النماذج.

 

هي أن الشخص يخلط بين الحكم الشرعي في حال (الاختيار والسعة والقدرة) والحكم الشرعي في حال (الضرورة والحرج أو عدم الاستطاعة) فيتحدث عن الحكم الشرعي في حال الاختيار، ويستدل لذلك بأحوال الضرورة، فيتعامل معها على أنّها درجة واحدة بينما هما في الحقيقة درجتان متباينتان (وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
 
إنها ظاهرة الخلط بين "الأصل" و "الاستثناء"، تتشابك معها القضايا في ذهن المتحدث فيدخل في أحكام الشريعة أمورًا ويبرهن عليها ويكون دليله على ذلك النظر في حالات الضرورة، والمنهجية الصحيحة أن يقرر أولًا الحكم الشرعي الأصلي الذي يريده  الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتحدث بعدها عن ما يطرأ في الواقع من حالات ضرورة أو حاجة معيّنة تعطي نوعًا من الاستثناء للحكم، لا أن تتداخل فلا يعلم القارئ هل هو أمام حكم (استثنائي خاصّ) أم حكم (شرعي دائم)؟
 
فحين يتكلم الشخص أو يؤلف عن "الحريات في الدولة الإسلامية" فيجب عليه أولًا أن يوضّح حدود الحريات في الشريعة بحسب دلائل الشريعة وأحكامها، ثم يقرر كيفية تطبيق ذلك في الواقع لا أن يكون الواقع هو الذي يفرض عليه الحكم، ويكون دوره بعدها في تتبع الشواهد والنصوص المساندة.

 

هل معنى هذا أن لا يكون للواقع أي تأثير على الحكم؟

 

لا قطعًا، فحين يجد الباحث أن هذا القول لا يمكن تطبيقه في الواقع فيجب الاجتهاد وبذل الوسع في اختيار الموقف المناسب، فيكون ثم درجتان في النظر، نظر في الحكم الشرعي ابتداءً، ونظر في حالات استثنائية طارئة للحكم.
 
إن حال من يخلط بينهما كحال من يُسأل عن حكم السجود للأصنام؟ فيقول: جائز لأن عدم سجودك سيؤدي بك إلى الهلاك! أو يقول عن شرب الخمر: إنه مباح لأن من لم يتداوَ به سيموت؟ أو يكتب: إن سرقة الماء جائزة لئلا تموت عطشًا؟ فعلى منوال هذه الأمثلة الظريفة تتّضح إشكالية دمج الأصل والاستثناء في حالة واحدة.
 
وأكثر ما تكون هذه الظاهرة حضورًا  هو في موضوعات (النظام السياسي) حيث  يقف بصرك متحيّرًا أمام بعض التقريرات الفقهية فلا تدري هل الحكم فيها متعلق ببيان الحكم الشرعي ابتداءً أم هو حالة ضرورة؟ لأن الباحث يبدأ فيها بذكر الحكم، ثم يسوق الدلائل والبراهين المتعلقة بالضرورات!
 
ومن الأمثلة الواضحة هنا: أن من ينظر في فلسفة الحريات في الإسلام سيجد أن حرية نشر الكفر والضلال لا يمكن أن تكون مكفولة في النظام السياسي وهو قول خارج عن التفكير الفقهي بتاتًا بل قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه:

 

"وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم. أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا. وهذا مما أجمع المسلمون عليه. ولهذا بعضهم يعاقِبون على فعله بالتعزير. وأكثرهم يعاقِبون عليه بالقتل. وهو مما لا يشك فيه مسلم. ومن شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" [1]

 

فالقول بترك أهل الذمة يطعنون في الدين يعتبر ردّة عن الإسلام في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية، وما علم – رحمه الله- أنّ هذا القول  سيصبح في زماننا من الأقوال المعروضة كرأي فقهي يستدلّ له بنصوص الكتاب والسنة، والحجّة الثابتة هي عدم الاستطاعة! [2]

ما المشكلة في هذا؟

 

الخلط بين الأصل والضرورة

 

هب أنهم خلطوا بين "الأصل" و"الضرورة" في بيان الأحكام الشرعية فكان ماذا؟

في هذا إشكالات عدة:

الأول: تحريف المفاهيم الشرعية، فالضرورة حالة استثنائية في واقعة معينة وليست هي الحكم الشرعي ابتداء، وحين يخلط الشخص بينهما فإنه يمارس تحريفًا للشريعة فيقرر من الشريعة ما ليس منها، ويتقوّل على الله بلا علم.

الثاني: تغيير مسار الإصلاح، فبدلًا من قيام المصلح الإسلامي بمهمة تحريك الناس ودفعهم نحو سيادة الشريعة التي يصلح بها شأن دينهم ودنياهم، ينقلب الحال ليكون الدور قائمًا على محاولة تخريج الشريعة وإدراجها ضمن الواقع المتاح، فيكون الحاكم في قضايانا هو (الممكن والمتاح)  وليس (مرجعية الشريعة).

فحين تسود مفاهيم "الضرورة" و"الاستثناء" حتى تكون لدى الناس هي المفاهيم الشرعية الثابتة ويبحث لها عما يجعلها هي الأصل فإن هذه عملية انقلاب كاملة للمنهج الإسلامي.

الثالث: مخالفة فقه الضرورات، القائم على التأكد أولًا من وجود الضرورة والاستثناء، وبعدها يكون حالها على منهجية (الضرورات تقدّر بقدرها)، فتكون خاصة في المكان أو الزمان  المعين، وبالتالي فلن تعمم على جميع المجتمعات، ولن تبقى دائمًا، بل لا بدّ من إصلاح الوضع لإزالة هذا الحكم الاستثنائي.

الرابع: إضافة مفاهيم ومعانٍ جديدة إلى الشريعة، لأن الشخص يعامل الضرورات كالأحكام الثابتة فيدرج مفاهيم الضرورة لتكون جزءًا من أحكام الشريعة ومقاصدها، فيدخل في نسيج الفقه الإسلامي أحكامًا لم تكن معروفة من قبل لأنها روعيت في حالة الضرورة حتى أصبحت أصلًا، ومن آثار هذا أن أصبح بعض المفكرين الإسلاميين حين يفسّر بعض الآيات القرآنية يعرض معناها على قولين، قول المتقدمين وقول بعض المعاصرين!

فأصبح ثمّ تغيرًا وتحوّلًا في المفاهيم الشرعية،  حتى أصبحت الشريعة مفرّغة من أي  إلزام أو منع أو إكراه لا ترضى عنه الحريات المعاصرة، ولو رجعت بالقراءة قليلًا قرنًا أو قرنين فإنك ستلحظ مثل هذه التفسيرات معدومة تمامًا في أي مواقع فقهية سابقة، لأنها باختصار مفاهيم دخلت من بوابة الضرورة فصارت جزءًا من نسيج الفقه الإسلامي.

 

المتغيرات المعاصرة


هل هذا يعني أن يتمسّك الشخص بالأصل دائمًا ولا يلتفت للمتغيرات المعاصرة؟

كلا، فالمتغيرات الهائلة والنوازل المتلاحقة تتطلّب اجتهادًا وبحثًا ودراسة متتابعة، تراعي الأحوال وتضع لكلّ حالة حكمها المناسب، وإذا كان من يخلط بين الأصل والاستثناء مخطئًا لكونه سحب أحكام الضرورة حتى صارت هي الأصل، فإن من يترك واجب الاجتهاد في الوقائع المتجددة مخطئ أيضًا  لأنّه لم يحكم في القضية بحكمها الشرعي الصحيح.
 
إن الأحكام الشرعية  أمانة في عنق كل من ينطق بها، والهمّ الأول الذي يجب أن يكون نصب عينيه هو في الوصول إلى الاحكام الشرعية التي يريدها الله،  وأن يجتهد غاية الاجتهاد في تحديد حكم الشريعة  ليعرف كيف يجيب الله عنها يوم لقاه، وكلّ صعوبات الواقع وإحباطاته وإحراجات المخالفين وضغوط القوى المختلفة وكافة هذه الإشكالات لا يجوز أن تكون سببًا للتهاون أو التخفّف من المعايير العلمية والمنهجية لتحرير الأحكام الشرعية، فالواجب بيان الحكم الشرعي تحديدًا، وأما مجريات الواقع وتوقّعاته فهي بيد الله يقلّبها كيف يشاء.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الصارم المسلول 220
  2. ذهب جمع من المعاصرين إلى أن الحرية في النظام السياسي الإسلامي تتّسع لكافة الآراء مهما كانت مصادمة للشريعة أو قادحة فيها، انظر على سبيل المثال:  الحريات العامة في الدولة الإسلامية للدكتور راشد الغنوشي 1/78

 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الأولى، ص95

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص #الأصل-الاستثناء
اقرأ أيضا
شبهة تشابه الإسلام مع الزرادشتية | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة تشابه الإسلام مع الزرادشتية


إن الزرادشتيين المتأخرين الذين كانوا يعيشون في الدولة الإسلامية هم من سرق شرائع الإسلام ووضعوها في كتبهم وهذا مثل الترجوم الثاني لإستر في الديانة اليهودية فأصله قديم إلى ما قبل الميلاد لكن النسخة التي يأخذون منها التشابه مع الإسلام تعود إلى ما بعد الإسلام بقرون وقد أثبت علماء التوراة اختلاف النسختين وعدم وجود التشابه مع القرآن في النسخة الأقدم وكذلك في الزرادشتية فهؤلاء قوم يعدلون كتبهم كل فترة

بقلم: موقع هداية الملحدين
681
واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله | مرابط
تفريغات

واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله


فعلى العبد أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته على الوجه الذي يليق به سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته فنؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا كفء ولا ند جل وعلا فعلمه كامل ليس كعلمنا وقدرته كاملة ليست كقدرتنا وبصره كامل ليس كبصرنا وهكذا بقية صفاته سبحانه وتعالى وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا بل هو أكمل وأعظم

بقلم: ابن باز
311
فساد الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

فساد الدين


يقع فساد الدين من طريقين اثنين الأول يأتي من جهة الاعتقاد الخاطئ فهذا هو الأساس وبما أن الخلل قد أصابه فالطبع سيلزم عنه فساد في الدين والثاني هو العمل بما يخالف الحق مع العلم به وهنا مقتطف من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2160
الكتاب المعجز الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين

الكتاب المعجز الجزء الثاني


ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنشائه لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المدون في كتب السنة والحديث ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلا فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلاهما كلام بليغ لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده

بقلم: د منقذ السقار
713
الفتور بعد الهمة | مرابط
مقالات

الفتور بعد الهمة


لقد جعل الله تعالى للباقيات الصالحات مواسم زمانية ومكانية ترتفع فيها الهمة والنشاط على العبادة والعمل الصالح وعندما تنتهي تلك المواسم يعود المرء بطبيعة الحال إلى ما كان عليه من قبل وربما يشعر الصادقون عندئذ بحالة من عدم الرضا بل ربما يتهمون أنفسهم بالنفاق وهنا لا بد من تقديم الطرح العلمي المتوازن الذي يستند إلى أدلة الشرع الذي يراعي طبائع النفس البشرية

بقلم: د. جمال الباشا
378
ضرورة الحكمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرورة الحكمة


كلام بديع لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن قيمة الحكمة وضرورة وجودها في كل شيء تقريبا وكيف يتحول الأمر من قمة الخير إلى قاع الشر إذا حرم الشيء وجود الحكمة فيه حتى لو كان ظاهره خيرا مثل العلم والقدرة والقوة فكل هذا يفصله عن الشر وجود الحكمة

بقلم: ابن القيم
2016