القدوة التربوية

القدوة التربوية | مرابط

الكاتب: مشاري الشثري

206 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلَّغ البلاغَينِ وَفقًا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن).

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ تهادى إلى سمعه قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عَقدانِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوصَ التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم.

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها.

مسلك القدوة

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، ولما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه - رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنها -، فنطقت بلسان الحكمة وقالت: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

ولـمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ما يعانونه من رَهَق الجوع، وحسروا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرًا على بطنه من شدة ما يلاقي من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! .. لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب.

والمربُّون هم في تربيتهم يُبلِّغون شُعَبًا من شعب هذا الدين، و(المنتصبُ للناس في بيان الدين منتصبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث)[1].

وها هنا جملةُ تقييدات تبحث جوانبَ من موضوع القدوة التربوية، منها:

المحافظة على القدوة

1. بقدر ما يتأكَّد على المربي أن يحافظ على جانب القدوة في تصرفاته فإن عليه أن يكون رساليًّا في هذه المحافظة، وذلك بأن يكون سعيُه لتجويد عمله بوصفه مربيًّا مقتدًى به = مقترنًا برغبة صادقة في تقويم ذاته أولًا، ثم مَن هم تحت يده من المربين، ولا يَكُنْ سعيه ذلك متكلَّفًا يمارس به دورًا وظيفيًّا منزوعَ الرساليَّة، فالمربي حين يخاطَب بأهمية القدوة ومركزيتها في العملية التربوية فإنه مطالبٌ بأن يصلح ذاته ظاهرًا وباطنًا، ليكون لذلك الإصلاح بذورٌ تنبت على محيَّا المربين ونسماتٌ تنطبع على أرواحهم، لا أن تكون غايته تحسين صورته وسمعته في عين وسمع المربِّين، وأثر هذا يستبين مع الأفعال العفوية التي يفرزها موقف طارئ، فيتمايز من كان تكوينه الذاتي مكينًا، وبين من رسم بريشة التكلُّف منصبه من الاقتداء .. نعم، ثمةَ قدرٌ من بلوغ مقام الاقتداء يُنال بتكلُّف الإصلاح، وأطر النفس على بعض الكمالات، لكن هذا التكلُّفَ والأطرَ مرحليٌّ يتجاوزه المربي ليكون ذلك له بعد زمنٍ سجيةً وسمتًا.

المربي عرضة للنقص

2. المربِّي كغيره عرضةٌ للنقص، وهو إنسانٌ يتديَّن على طباعِه، حسنِها وسيئِها، فمهما غالبَ طباعَه فلن تزال عالقةً به، وهو إنما يسعى في ترشيدها لا إزالتها، وإذا تقرَّر ذلك فالمربي القدوة لن يكون مثاليًّا في شتى جوانبه، وإذا علمنا أن العملية التربوية خليطٌ من المهارات والإمكانات، فإن المربي لن يبلغ الغاية في جميعها، وعليه فيمكننا أن نقرِّر بأن القدوة تتجزَّأ، فربما كان المربي قاصرًا في جانبٍ قدوةً في آخر، وهذا إذا فقهه المربي كان عونًا له على مداراة نفسه حين سعيه في إصلاحها وتدرُّجه في تقويمها، وإذا فقهه المتربي كان عونًا له في إفادته ممن تصدَّر لتحمُّل عناء تربيته، بالتأسِّي به في جوانب تميزه والإعراض عن نقائصه.

المحاضن التربوية

3. ثمة ما يمكن تسميته في المحاضن التربوية بـ (القدوة الجماعية)، وذلك أن المربي له صفات ذاتية خاصة به، وأخرى تتعلق بطبيعة علاقته مع غيره، وأخص بالحديث هنا علاقتَه ببقية المربِّين في المحضن، فالمتربون يلحظون من المربي جانبين من جوانب الاقتداء، جانب يتعلق بالمربي ذاته، وجانب يتعلق بعلاقة المربي بغيره من المربين، فقد يكون المربي صالحًا في نفسه متميزًا بإمكاناته بارعًا في تأثيره، لكن علاقته ببقية المربين علاقة مخدوشة تفتقر إلى التكامل في العمل، وربما تعدَّى تأثيره إلى بخس بقية المربين حقوقهم ومنجزاتهم، وهذا له تأثيره السلبي على المتربي، فبدل أن يستفيد المتربي من معالم التميز الموزعة على المربين جميعًا، نراه ينحاز لبعضهم مفضِّلًا لهم على غيرهم، وأصل المفاضلة مشروع، لكن القصد هنا المفاضلة التي ينبني عليها شعبةٌ من التحقير لمنجزات المفضول في نظره.
فعلى المربي أن يلحظ في تربيته مصلحة المحضن التربوي، لا مصلحته الشخصية، وهذا يستدعي منه نظرة تكاملية في طبيعة تربيته يوازن بها بين دوائر القدوة الفردية والجماعية.

قدوة للمربين

4.   كما يكون المربي قدوة لمن يربيهم، فكذلك ينبغي له أن يكون قدوة لسائر المربين، وهذا مجال تنافس بينهم في مجالات البذل والتضحية، فالمربي إذا كان قدوة للمتربي في سمته وخلقه وهمته العلمية والعملية، فهو قدوة للمربين في بذله وعطائه، وكم من مربٍّ نهض بعطائه بالمحضن كله، وهذا هو المربي الراحلة الذي وطِّئت أكنافه للعمل والمثابرة فكان مثالًا عزيزًا على الإصلاح التربوي.

هذه بعض متعلَّقات موضوع القدوة التربوية، والمجال رحب لكثير من الرؤى حول هذا الموضوع، وهو جديرٌ بالعناية من قِبَل المربين، نظرًا لتمثيله مركز التربية الميدانية.


الإشارات المرجعية:
[1] الموافقات للشاطبي (4: 87).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية #القدوة
اقرأ أيضا
تعظيم السلف | مرابط
فكر مقالات

تعظيم السلف


ينبوع الإحداث في دين الله كله ناشئ بسبب ضعف تعظيم السلف في عمق علمهم وكمال ديانتهم وصحة تدين المرء واهتداؤه في دين الله فرع عن تعظيم السلف واعتقاد كونهم أكمل منا دينا وعلما والمتأمل في كلام الطوائف الكلامية سابقا أو الطوائف الفكرية المعاصرة وغيرهم يجد أنهم جميعا ينظرون إلى السلف كالدروايش أو أن تجربتهم لا تلزمهم أو أنها ناجحة ولكن تجربة الخلف أذكى وأمهر وأثرى

بقلم: إبراهيم السكران
2223
الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة


واعلم أن الخطة الفاصلة بيننا وبين كل مخالف أننا نجعل أصل مذهبنا الكتاب والسنة ونستخرج ما نستخرج منهما ونبنى ما سواهما عليهما ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا بل نطلب المعانى فإن وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة أخذنا بذلك وحمدنا الله تعالى على ذلك وأن زاغ بنا زائغ ضعفنا عن سواء صراط السنة ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان وبركت الجدد اتهمنا آراءنا فرجعنا بالآية على نفوسنا واعترفنا بالعجز

بقلم: الإمام السمعاني
422
جيل الصحابة ومن بعدهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

جيل الصحابة ومن بعدهم


مقتطف ماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية من مجموع الفتاوى المجلد الرابع يتحدث فيه عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم وكيف أنهم يفوقون من جاء بعدهم في كل شيء وفي كل فضيلة وعلم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هم يفوقون الناس جميعا في كل خصلة من خصال الخير

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1961
الأمة الوسط الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الأمة الوسط الجزء الثاني


من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى

بقلم: عمر الأشقر
858
مقامات التسليم لله | مرابط
تعزيز اليقين

مقامات التسليم لله


وتتبين حقيقة هذا التسليم على وجهها بمعرفة حال الصحابة رضي الله عنهم وما كانوا عليه من التسليم بخبر الله وأمره دون أدنى تردد أو اعتراض ومما يظهر به فضلهم على جميع الأمة ممن جاء بعدهم أنهم قد عايشوا التنزيل فما كان منهم في جميع أحوالهم إلا الاستجابة لكل ما يتجدد من شرائع الدين وأحكامه بمجرد علمهم بها.

بقلم: عبد الله القرني
416
أحفاد كعب بن الأشرف وقضية الحجاب | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

أحفاد كعب بن الأشرف وقضية الحجاب


يناقش الكاتب راغب السرجاني قضية الحجاب وعلاقتها بالحرب الإبليسية المشتعلة منذ قديم الزمان يقف بنا أمام معالم هذه الحرب القائمة على إشاعة الفاحشة وكيف ازدادت هذه المحاولات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يربط ذلك بما يحدث في عصرنا من دعوات خلع الحجاب وإشاعة الفاحشة في الإعلام بشكل ممنهج

بقلم: راغب السرجاني
2146