البحث عن مصدر القرآن الكريم ج2

البحث عن مصدر القرآن الكريم ج2 | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

285 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

٢- فيما يتصل بمستقبل المؤمنين:

"وإليك مثالًا من النوع الثاني".

كان القرآن في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} فلما هاجروا إلى المدينة فرارًا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانتقلوا من خوف إلى خوف أشد.

وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الأوقات العصيبة ينبئهم القرآن بما سيكون لهم من الخلافة والملك، علاوة على الأمن والاطمئنان، فما هذا؟ أأحلام وأماني؟ لا، بل وعد مؤكد بالقسم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}

روى الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابُه المدينةَ وآوَتْهُمُ الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية. وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد.

فانظر كيف جاء تأويلها على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله: {مِنْكُمْ} فبُدلوا من بعد خوفهم أمنًا لا خوف فيه، واستخلفوا في أقطار الأرض فورثوا مشارقها ومغاربها.

وتأمل قوله في هذه الآية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله في الآية الآخرى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} تجد فيها نبأً آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانًا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

دخول مكة

"وإليك مثالًا آخر":

مُنع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية، واشترطت عليهم قريش إذا جاءوا في العام المقبل أن يدخلوها عزلًا من كل سلاح إلا السيوف في القُرُب، فهل كان لهم أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الأرحام وانتهاك شعائر الله؟ أليسوا اليوم يحبسون هديهم أن يبلغ محله؟ فماذا هم صانعون غدًا؟

على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم، ألا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ؟ وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب، وهو سلاح قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيديهم ورماحهم، ولكنه لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم، في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} فدخلوها في عمرة القضاء آمنين، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم.. الحديث أخرجه الشيخان

"ومثالًا ثالثًا": كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون لهم: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم؛ فنزلت الآية {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}

لقد كان الإخبارُ بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخبارًا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون، ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدًّا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ، فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة، فضلًا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر؛ ولذلك كذب به المشركون وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدًا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

ولقد صدق الله وعده، فتمت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين. وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره.

٣- فيما يتصل بمستقبل المعاندين:

وهذه أمثلة من النوع الثالث:

استعصى أهل مكة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود. ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}

تَرَ فيها ثلاث نبوءات أخرى: كشف البؤس عنهم، ثم عودتهم إلى مكرهم السيئ، ثم الانتقام منهم بعد ذلك، وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور، فإنهم لما جاءوا إلى رسول الله يستسقون وتضرعوا إلى الله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} سقاهم الله فأخصبوا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم، فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر، حيث قُتل من صناديدهم سبعون، وأُسر سبعون.

فتارة يأتي محملًا كما في قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} وقوله {فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}

وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة، حيث لا مجال لأصل فكرة الحرب والتقاء الجموع، فضلًا عن توقع فرارها وهزيمتها، حتى إن عمر -رضي الله عنه- لما نزلت هذه الآية جعل يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولها. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وعجزه في الصحيحين.

وتارة ينص على حوادث جزئية محددة منه -وهذا أعجب وأغرب- كما في قوله في شأن الرجل الزنيم الذي كان يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} فأصيب بالسيف في أنفه يوم بدر. وكان ذلك علامة له يعيَّر بها ما عاش. رواه الطبري وغيره عن ابن عباس.

ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود. انظر كيف يقول فيهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} وقد فعل. ثم يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}. ويقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}

فيا عجبًا لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالًا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادًا شدت بها أيديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتًا في كل واد، أذلاء في كل ناد، لم تقم لهم في عصر من العصور دولة، ولم تجمعهم قط بلدة، وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات. بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين، وبلاد الإسلام التي هي أرحب أرض الله صدرًا، إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين.

وهل أتاك آخر أنبائهم؟

لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من "الأرض المقدسة" وطنًا قوميًّا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد. وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وينزلون بها خفافًا أو ثقالًا.. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى -أو لعلها الأولى والأخيرة- مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلا، ولكن مستندين إلى "حبل من الناس!! " فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثًا، أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}.

فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبًا وبعيدًا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتًا وتأييدًا، وكيف يكون الدهر مصداقًا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟

بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشئون غيبه صدقته الأنبياء والكتب.

ثم اسأل نفسك بعد ذلك "أترين هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟ ".. تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه "إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق. ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته" وإلا فأين هذا الذكي أو العبقري الذي أعطاه الدهر عهدًا بأن يكون عاصمًا لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم، وأنباء المستقبل مهما بعد؟

إن الأنبياء أنفسهم -وهم في الطبقة العليا من الذكاء والفطنة بشهادة الكافة- لم يظفروا من الدهر بهذا العهد في أقرب الحوادث إليهم، فقد كانوا فيما عدا تبليغ الوحي إذا اجتهدوا رأيهم فيما غاب عن مجلسهم أصابت فراستهم حينًا وأخطأت حينًا.

هذا يعقوب -عليه السلام- نراه يتهم بنيه حين جاءوا على قميصه بدم كذب، ثم يعود فيتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرق، فيقول لهم في كل مرة: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وقد أصاب في الأولى، ولكنه في الثانية اتهمهم وهم برآء.

وهذا موسى -عليه السلام- نراه يقول للعبد الصالح {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ثم ينسى فلا يطيق معه صبرًا ولا يطيع له أمرًا.

وهذا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان ربما هم الناس أن يضللوه في الأحكام، فيدافع عن المجرم ظنًّا أنه برئ، حتى ينبئه العليم الخبير.

فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}

وقد صح في سبب نزولها أن لصًّا عدا ذات ليلة على مشربة لرجل من الأنصار يقال له رفاعة، فنقب مشربته، وسرق ما فيها من طعام وسلاح، فلما أصبح الأنصاري افتقد متاعه حتى أيقن أنه في بيت بني أبيرق، وكان فيهم منافقون، فبعث ابن أخيه إلى النبي يشكو إليه، فقال صلّى الله عليه وسلم: "سأنظر في ذلك".

فلما سمع بذلك بنو أبيرق جاءوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. فجاء قتادة فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة! " فرجع قتادة إلى عمه فأخبره، فقال عمه: الله المستعان. ثم لم تلبث أن نزلت الآية تبين للنبي خيانة بني أبيرق، وتأمره بالاستغفار مما قال لقتادة. الحديث رواه الترمذي، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.

بل اسمع قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله" وقوله "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن.

فمن كان هكذا عاجزًا بنفسه عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين في زمنه وفي بلده، وقد رأى أشخاصهما وسمع أقوالهما، هو بلا شك أشد عجزًا عن إدراك ما فات، وما هو آت.

تلك هي شقة الغيب تنطفئ عندها مصابيح الفراسة والذكاء، فلا يدنو العقل منها إلا وهو حاطب ليل وخابط عشواء: إن أصاب الحق مرة أخطأه مرات، وإن أصابه مرات أخطأه عشرات، على أن الذي يصادفه الصواب لا يمكن الوثوق ببقائه معصومًا من التغيير والتبديل، بل عسى أن تذهب به ريح المصادفة كما جاءت به ريح المصادفة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}


المصدر:
محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم ص 65

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الأصول الضابطة بين الرجل والمرأة | مرابط
المرأة

الأصول الضابطة بين الرجل والمرأة


من أكبر التعقيدات المجتمعية المعاصرة أن الواقع يدفع المرأة بكل قوته إلى عكس الفطرة في السفور وعدم القرار بالبيت والعمل والتبرج والمساواة وكل هذه الأمور التي تحول المرأة إلى رجل في تصرفاتها في صورة امرأة في شكلها وتبقى هذه الأزمة لا هي تستطيع أن تكون رجلا طيلة الوقت ولا تستطيع أن تنعم بأنوثتها وقرارها كذلك.

بقلم: محمد حشمت
309
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
488
مختصر قصة التتار الجزء الثالث | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الثالث


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1256
الذكاء الاصطناعي وموجة إنكار الإله | مرابط
فكر الإلحاد

الذكاء الاصطناعي وموجة إنكار الإله


قبل عشرة أعوام بالتمام صدر فيلم أمريكي حقق نجاحا كبيرا برغم أنه من الأفلام التي تناقش فلسفات خطيرة جدا. كان من أهم الفلسفات التي ناقشها مسألة الوعي الذاتي وهل إذا طورت آلة وعيا خاصا بها تصنع به ديناميكيات واستراتيجيات لإدارة حياتها لا بمعزل عن الإنسان بل لتدمير الإنسان نفسه إن اصطدم بطموحاتها تصبح تلك الآلة مخلوقا؟ وحينها يصبح الإنسان خالقا؟

بقلم: عمرو عبد العزيز
513
لا يأمن البلاء من يأمن البلاء | مرابط
أباطيل وشبهات

لا يأمن البلاء من يأمن البلاء


هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يلح في الدعاء بأن يثبت الله قلبه على الدين وأن يعيذه من فتنة المحيا والممات ومن فتنة الدجال. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يدعو الله بأن بجنبه عبادة الأصنام وهو المعصوم! فمن هذا الذي يأمن على نفسه فيلج إلى مواطن الفتن غير آبه؟ ومن تلك التي تحسب نفسها من الملائكة فتلج إلى مواضع الشبهات غير عابئة بأي شيء؟

بقلم: محمود خطاب
426
هل الأجر دائما على قدر المشقة؟ | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل الأجر دائما على قدر المشقة؟


ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
322